الانتحار في ميزان الشرع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فالمؤمنون من هذا البلاء بعافية والحمد لله ، وبلاد المسلمين هي أسلم البلاد وأنقاها من جرثومة هذا البلاء ، وذلك بسر الوقاية العجيبة التي يصنعها الإيمان ، وتغذيها عناصر التربية الإسلامية
الإسلام وفكرة تمني الموت تخلصا ًمن المصائب
جاءت الشريعة الإسلامية بفضائل عظيمة لمن صبر على ما يعانيه , ليعلم الإنسان أن صبره على المصائب والآلام مكفر لسيئاته ، ورافع لدرجاته ، ويسجل له مع كل شعور بالألم أجر عند الله ، ويناله ثواباً عظيما وكرامة عنده في دار الجزاء ، فحين يعلم المؤمن ذلك يرى أنه في خير عظيم وفضل جسيم من الله تعالى ، ويرى أن تمنيه الموت تخلصاً من المصائب هروب من الحياة ، وفرار من مسؤولية الابتلاء ، وخروج من سوق تجارة رابحة أضعافاً مضاعفة ، فهذا يجعله يحسن الظن بالله ويعينه على ترك فكرة تمنيه الموت ليتخلص من مصائبه وآلامه , وبينت الشريعة أن المؤمن في طول أجله فرصة له ليزيد من حسناته إن كان من المحسنين ، وليتوب ويصلح من حاله إن كان من المسيئين , ولكل هذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا عن تمني الموت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{لا يتمنى أحدكم الموت ،إما محسنا ًفلعله يزداد ، وإما مسيئا ًفلعله يستعتب }([1])
يستعتب : أي يرجع عن الإساءة ويطلب الرضى بالتوبة والندم والاستغفار والعمل الصالح , أي فهو أحد رجلين :
إما أن يكون محسنا ً، وفي هذه الحالة يرجو بطول الأجل أن يزداد إحساناً وأعمالاً صالحة
وإما أن يكون مسيئاً ، وفي هذه الحالة يرجو بطول الأجل أن يتوب
ويستغفر ويعمل صالحاً ويكفر عن سيئاته
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه ، إنه إذا مات انقطع عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمرهُ إلا خيراً }([2])
فأبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيراً ، وأن عليه أن يواجه مسؤولياته في الحياة بقوة إرادة وصدق عزيمة ، وصبر وصمود وكدح ومجاهدة ، ليغتنم من حياته ما يستطيع اغتنامه لآخرته
وقال صلى الله عليه وسلم :{لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه ، فإن كان لابد فاعلاً فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي}([3])
هذا الحديث يدل على أن الأفضل للمؤمن أن لا يتدخل في طلب الموت من ربه مطلقاً وأن يترك أمر الأجل لمقادير الله في خلقه ، ولحكمته في عباده
معرفة عقوبة قتل الإنسان نفسه فيها زجر للانتحار
جاءت الشريعة بوعيد شديد لمن قتل نفسه , فقد توعد الله من قتل نفسه بأشد الوعيد ، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} ([4])
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها
أبداً } ([5])
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار والذي يقتحم يقتحم في النار}([6])
{كان برجل جرح فقتل نفسه فقال الله بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة}
{كان فيمن قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله بادرني عبدي بنفسه} ([7])
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة }([8]) {ومن ذبح نفسه بشيء عذب به يوم القيامة}([9])
وهذه العقوبة تضع بين المرء وبين الطريق التي تنحدر بكثير من الناس إلى الانتحار سدا ًمنيعاً
أسباب الانتحار
البيئة الإسلامية ولله الحمد أسلم البيئات وإن وجدت حالات من بعض أبناء المسلمين الذين أصيبوا في هذا العصر بأمراض أهل الكفر لمّا تسرب إليهم داء الكفر بالله وبمقاديره وحكمته ، والكفر باليوم الآخر وما فيه من جزاء بالثواب أو بالعقاب ، والكفر بالمفاهيم الإسلامية العظيمة ، فيتولد في نفس المرء السأم والضجر من الحياة عند أول ضر يمسه ، ومع تتابع أحداث الضجر مرة بعد مرة ، تتكثف في نفسه ضغوط قاتلة ، لا تجد لها منفذاً تتنفس منه ، لأن المتنفس الوحيد لا يأتي إلا عن طريق الإيمان بالله واليوم الآخر والرضا عن الله فيما تجري به مقاديره ، ومراقبة الأجر العظيم الذي أعده الله للصابرين , وبعد تكثف ضغوط الضجر والسأم من الحياة دون أن تجد متنفساً سليماً تحدث حالة الانفجار النفسي ، وهذا الانفجار الذي ينتهي بصاحبه إلى الإنتحار أو إلى الجنون ، أو إلى إدمان المسكرات والمخدرات ، وفي كل ذلك شر مستطير ، وبلاء كبير
معرفة ما سبق يجعل صاحب فكرة الإنتحار يحذر من خطورة التنفيذ يوم القيامة ويتفاعل مع التوجيهات الإسلامية التي من شأنها أن ترفع معنويات المسلم في الحياة ، وتشد عزيمته ، وتنفي السأم والضجر عن نفسه وقلبه
قتل النفس من أجل الشهادة
وهناك فرق بين إرادة قتل النفس للتخلص من ضرٍ أياً كان , وبين إرادة قتل النفس لرفع راية لا إله إلا الله لتكون كلمة الله هي العليا
ففي الحالة الأولى وهي قتل النفس لضرٍ , تكون عاقبة من يفعل ذلك أنه في النار
{عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عساكره ومال الآخرون إلى عساكرهم وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه من أهل النار وفي رواية فقالوا أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار فقال رجل من القوم أنا صاحبه أبدا فخرج معه كلما وقف , وقف معه وإذا أسرع , أسرع معه فجرح الرجل جرحاً شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك رسول الله قال وما ذاك قال الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه}([10])
وفي الحالة الثانية وهي قتل النفس لرفع راية لا إله إلا الله لتكون كلمة الله هي العليا كما فعل عمير بن الحمام الأنصاري صاحب هذه القصة
{ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض قال عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض قال نعم قال بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل}([11])
فمن يفعل ذلك يستحق من كل مسلم الفخر والثناء عليه إن فعل ذلك وأنه شهيد له أجور عظيمة عند الله ومنها :
ما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ إن للشهيد عند الله عز وجل سبع خصال ، أن يغفر له في أول دفعة من دمه , ويرى مقعده من الجنة , ويحلى حلة الإيمان , ويجار من عذاب القبر , ويأمن من الفزع الأكبر , ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها , ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين , ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه}([12])
وهناك فرق بين من يٌقتل في سبيل الله وبين من يُقتل من أجل الصيت والسمعة
{جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله}([13])
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال قاتلت في سبيلك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قتلت لأن يقال فلان جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار}([14])
فالشريعة وضحت مسألة النية في قتل المرء نفسه حتى لا يكون المسلم مثل الكافر الذي يقتل نفسه من أجل فكرة أو نظام أو حكم وهو في الآخرة في النار , كمن يقتل نفسه بعملية أرهابية من أصحاب الفئات الضالة ويكون خنجراً مسموماً استخدمه الأعداء لطعن أمته, عندما اتُخذه معول هدم لأمتهم
وهذه قصة ليقتاد بصاحبها , فحقاً نعم القدوة سلفنا الصالح
{عن قيس بن أبي حازم قال : دخلنا على خباب بن الأرت رضي الله عنه نعوده ، وقد اكتوى سبع كيات ، فقال : إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا ، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا ًإلا التراب . ثم قال : ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به }([15])
وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب , أي أصبنا من المال ما لا نجد له موضعاً نضعه فيه إلا أن نبني به ونعمر بيوتا ًوبساتين
لم يدع الخباب بن الأرت على نفسه بالموت ،مع أنه وصل إلى حالة رأى فيها أن الموت أحب له من الحياة ليس لأنه بلغ من شدة مرضه أنه اكتوى سبع كيات ولكن مخافة أن تنقص الدنيا والأموال التي زادت عنده من منزلته عند الله عن أصحابه الذين سبقوه إلى ربهم ، قبل أن تفتح الدنيا على المسلمين كمثل مصعب ابن عمير الذي استشهد ولم يجدوا شيء يغطوه بها إلا قطعة من قماش إن وضعت على رأسه ظهرت رجلاه وإن وضعت على رجلاه ظهر رأسه وقد مات ولم ينل أي أجر في الدنيا وكل أجوره تدخر له في الآخرة
وقد حدث خباب نفسه بالموت ولم يطلبه ، وبالرغم من المعنى العظيم الذي في نفسه إلا أنه قدم قول النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى وهذا الذي ينبغي أن يُغرس في النفوس تقديم ما جاءت به الشريعة من قول الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم ولا نقدم عليهما قول بشر مهما جاءوا بنظريات وأبحاث بل حرام أن ندخل المقارنة وخاصة في التعارض بادعاء أن هذا علم
خاتماً
فإن هذه المطوية توضيح لمن يعمل في مجال إصلاح النفوس ممن نحسن الظن فيهم أنهم يريدون نفع مرضاهم , من خلال بيان وتوضيح معالجة الشريعة الإسلامية لمسألة قتل الإنسان نفسه وهو ما يسمى بالانتحار , لأنهم قد حصّلوا على الكثير من العلوم الأخرى التي تعرضت لهذه القضية وهي في الغالب لمدارس ونظريات بشرية أما الشريعة الإسلامية فهي التي فيها علاج لهذه القضية لأنها من عند الله الذي خلق النفس ويعلم صلاحها
فهو علم مؤصل راسخ وموثق من عند الله الذي حفظه وقال:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }([16]) فهو لا يقارن بكلام البشر والذي لا يخلوا من أخطاء شرعية سواء كان من المدارس الغربية أو الشرقية أو غيرها والتي قد لا يجانب الصواب من يقول إن ما أخذ من هذه المدارس البشرية يكون هو العلاج لصلاح النفوس لأنه علم مؤصل وما في الشريعة ليس بعلم له تأصيل في العلاج وإنما يصلح للإرشاد فقط , لقد وضعت مثل هذا العبارات مصطلح للعلاج ومصطلح للإرشاد
فَلْيُعْلَم أن الله أرسل الرسل لإرشاد العباد إلى عبادة رب العباد والتي فيها صلاح أنفسهم , وليس هناك مدرسة ممن أخذت التأصيل العلمي لنفسها في العلاج تستطيع أن تقوم بما يقوم به الإرشاد النبوي المؤصل من عند الله في علاج نفوس البشر , بل لقد وجد ممن أنشئ هذه المدارس وقدّم كلام البشر بما فيه كلام نفسه على كلام النبوة فَضْلَ ولم يصلح هو نفسه قبل الآخرين ومات على غير الهداية وخسر هو صلاح نفسه ويشارك في الإثم لمن أخذ منه
كتبها الشيخ / عبد القادر بن محمد بن حسن أبو طالب
[1] البخاري 4932
[2] البخاري 5671
[3] مسلم 2682
[4] سورة النساء الآية 30
[5] البخاري 5778 مسلم 2/301 تحسى سما أي شرب سما أو حبوب كمية تقتله , تردى أي رمى بنفسه من الجبل أو غيره فهلك أي أسقط نفسه من مكان مرتفع بقصد قتل نفسه , يتوجأ بها أي يضرب بها نفسه
[6] البخاري 1365
[7] البخاري 1364
[8] مسلم 2/302
[9] البخاري 1363 مسلم 2/303
[10] البخاري 2898 مسلم 112 شاذة ولا فاذة أي كل من أنفرد عن جماعته , وذبابه أي رأسه
[11] مسلم 1901
[12] المسند 4/131, صححه الألباني في صحيح الجامع 5182
[13] البخاري 2810
[14] مسلم 1905
[15] البخاري 5672
[16]سورة الحجر (9)
[1] مسلم
[2] البخاري , مسلم
[3] مسلم
[4]المسند , حسنه الألباني في الترغيب 3412
[5] ابن أبي الدنيا , الألباني حسن صحيح في الترغيب 3412
[6] ابن حبان , صححه الألباني في الترغيب 3429
[7] الطبراني في الأوسط وجود إسناده ابن حجر
[8] مسلم 2572 , الترمذي 965 وقال حسن صحيح , ابن حبان 2895
[9] مسلم
[10] المسند , الحاكم وصححه , صححه الألباني في الترغيب 3421
[11] مالك , البخاري , يصب منه أي يوجه إليه مصيبة ويصيبه ببلاء