1- البار بوالديه لا يكافئهما حقهما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه}[41]
فبين رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه لا يوجد شيء في البر يكافئ به أبوه أو أمه مهما قدم إليهما من صور الإحسان , نفقة , خدمة , مؤانسة , إلا رجل وجد أبوه عبد مملوك فاشتراه ثم أعتقه من الرق , أعتقه من العبودية , هذا الذي يكون وفى أباه والآباء في عصرنا كلهم أحرار ليس لأحد أب في رق يشتريه ويعتقه يعني لا يوفي حق أبيه , والأم حقها أعظم , ولعظم حقهما وخاصة عند الكبر قال اللَّهِ تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) } الإسراء
خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر , فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل , لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه , فيحتاجان أن يقترب منهما في الكبر ما كان يحتاج هو في صغره أن يقتربا منه , فلذلك خص هذه الحالة بالذكر , وأيضا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه , ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة , وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر
ففي حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف البدني والعقلي منهما ، وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما ، وفي حال كهذه نهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر من والديه ، وأمره أن يقول لهما قولا كريما فيخاطبهما مخاطبة من يستصغر نفسه أمامهما ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمة بهما وإحسانا إليهما ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في صغره ووقت حاجته فربياه صغيرا[42]
وقد أمر الله أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة , وهو السالم عن كل عيب فقال: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} لا يقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم وهو الكلام الرديء الخفيّ أي على العبد ألا يسمعهما قولا سيئا ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ
وفي معناه إذا رأى منهما في حال الشيَخوخة الغائطَ والبول الذي رأياه منه في الصغر فلا يَقْذَرْهما ويقول أُفّ
فصارت قولة (أف) للأبوين أردأ شيء ، لأنها كلمة تقال لكل شيء مرفوض ، فهي للأبوين كفرٌ للنعمة ، وجحد للتربية ، ورد للوصية التي أوصى الله بها في القرآن
{وَلَا تَنْهَرْهُمَا }أي ولا يصدر إليهما فعل قبيح فلا ينفض يده عليهما
ولما نهى عن القول القبيح والفعل القبيح أمر بالقول الحسن والفعل الحسن فقال {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} لينا طيبا حسنا بتأدب وتوقير وتعظيم مثل يا أبتاه ويا أماه , من غير أن يسميهما ويكنيهما
قال أبو الهدّاج أحد العلماء : قلت لسعيد بن المسيّب وكان العلم ينتهي أليه في عصره , كلّ ما في القرآن من برّ الوالدين قد عرفته إلا قول: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} ما هذا القول الكريم ؟ قال ابن المسيّب: قولُ العبد المذنب للسيد الفَظّ الغليظ
فمن البر بالوالدين أن يقدم لهما قولا وعملاً حسنا طيبا مصحوبا بالتقدير والاحترام سواء وافق هذا رغبته وما تهواه نفسه أم لا وسواء أحب ذلك أو كره
فكثيرا من الأولاد يظنون أن البر والإحسان بوالديهم هو فيما يوافق رغباتهم وما تهواه نفوسهم ، والحق أن البر لا يكون إلا فيما يخالف أهواءهم وميولهم ، ولو كان فيما يوافقها فقط لما سمي براً ، فإذا علم أبوه أو أمه بسفره مثلا إلى بلد ما أو مصاحبة رفقة ما ، ونهياه عن ذلك أو نهياه عن السهر على اللهو واللعب ، وكره نهيهما لأنه يخالف هواه ، وسافر واتبع هواه وخالف نهيهما ، فقد أساء إليهما ولم يحسن إليهما وعقّهما ولم يبر بهما ، وإذا أمراه بمعروف أو بفعل خير وكره ذلك ولم ينفذه ، فقد عصيهم ولم يحسن إليهم وليس أصعب على الوالدين من أن يرفض الولد لهما طلبا أو يعصي لهما أمراً
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ (24)} الإسراء
خفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس فيتذلل لهما أي يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة , في أقواله وسكناته ونظره , ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب
فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة بِرّهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك. والشقيّ من عقّهما
{كان رجل في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها ؟ قال لا ولا بزفرة واحدة }[43]
فعلى الابن عندما يتطلع الوالدان لإحسانه ، ويؤملان الصلة بالمعروف
ألا ينسى ضعفه وطفولته ، ولا يعجب بشبابه وفتوته ، أو يغره تعليمه وثقافته ، ويترفع بجاهه ومرتبته ، أو يؤذيهما بالتأفف والتبرم ، أو يجاهرهما بالسوء وفحش القول ، فيقهرهما وينهرهما ، فهما يريدان حياته ، فلا يتمنى موتهما إذا كبرا فاحتاجا إليه ولا يجعلهما أهون الأشياء عليه فيعم غيرهما بالإحسان ويقابل جميلهما بالنسيان , ويشق عليه أمرهما وطول عمرهما , حتى يبره أولاده فسوف يكون محتاجا إلى بر أبنائه ، وسوف يفعلون معه كما فعل مع والديه ، وكما يدين يدان ، فالجزاء من جنس العمل [44]
فينبغي على العبد طاعة والديه ويحذر معصيتهما
[41] مسلم 1510, أبو داود 5137 , الترمذي 1906 , ابن ماجه 3659
[42] العثيمين
[43] ابن كثير عند الآية23-24 الإسراء , الألباني صحح إسناده في صحيح الأدب المفرد 9/11
[44] صالح بن حميد في خطبة عن بر الوالدين مع تصريف