الصيام دافع للتقوى
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) } سورة البقرة
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } أي فرض عليكم الصيام
يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأنه فرضعليهم الصيام، لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان
معنى الصيام
الصيام مصدر صام
ومعناه في اللغة الإِمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ومنه قول الله تعالى مخبراً عن مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } سورة مريم: 26 يعني صمتًا عن الكلام
ومعناه في الشرع هو إمساك عن أشياء مخصوصة وهي الطعام والشراب والوقاع في زمان مخصوص وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية خالصة لله عز وجل
والصيام أحد أركان الإِسلام الخمسة ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {بني الإِسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان } ([1])
{ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }
يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم
يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم
وفي هذا ترغيب وتطييب لأنفس المخاطبين فان الصوم عبادة شاقة والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله ويرغب كل احد في إتيانه
وحكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة ، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ، وفي ذلك صلاح حال الأفراد التي يتكون منها المجتمع
وحرف الكاف في كما للتشبيه والتشبيه في قوله تعالى { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } راجع إلى أمور منها أصل إيجاب الصوم وفرضيته أي أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة على الأمم التي سبقت الأمة الإسلامية
ومنها ما يرجع إلى التشبيه في صيامنا بصيام الأمم السابقة في قدر الصوم وهو شهر ووقته من العشاء أو النوم إلى وقت الإفطار في اليوم الثاني
فصيام رمضان كان واجبا على النصارى كما فرض علينا، وكان يقع في الحر الشديد والبرد الشديد، وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم، فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف، فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين، ثم إن ملكهم اشتكى فمه فجعل لله عليه إن هو برئ من وجعه أن يزيد في صومهم. أسبوعا فبرئ فزاد فيه أسبوعا ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال أتموه خمسين يوم ([2])
والنصارى كتب عليهم رمضان، وكيفية صيامهم يشابههم فيه صفة صيام المسلمين في بادئ الأمر فقد كانوا يَصنعون كما تصنع النصارى في الصيام إذا حل موعد الإفطار يأكلون ويشربون ويأتون نسائهم حتى يصلوا العشاء أو يناموا فمن صلى العشاء أو نام حتى ولو قبل صلاة العشاء لا يحل له الأكل أو الشرب أو الجماع حتى موعد الإفطار في الليلة التالية، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب، ما كان، فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماعَ إلى طُلوع الفجر ([3])
من فوائد هذا التشبيه
من فوائد التشبيه تسهيل هذه العبادة على المسلمين , لأن الشيء الشاق تخف مشقته على الإِنسان عند ما يعلم أن غيره قد أداه من قبله .
ومن هذا التشبيه إثارة العزائم والهمم للنهوض بهذه العبادة ، حتى لا يكونوا مقصرين في أدائها ، بل يجب عليهم أن يؤدوها بقوة تفوق من سبقهم لأن الأمة الإِسلامية قد وصفها سبحانه بأنها خير أمة أخرجت للناس وهذه الخيرية تقتضي منهم النشاط فيما كلفهم الله بأدائه من عبادات ([4])
وخطاب الله تعالى للمؤمنين من هذه الأمة وأمره لهم بالصيام أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوة، وَليَجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك ([5])
{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي تتقوا الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى
لأن الصوم يورث التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوة وانقماع الهوى فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ويهون لذات الدنيا ، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وإنما يسعى الناس لهذين , فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما ، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش ، وذلك جامع لأسباب التقوى فيكون معنى الآية فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي
واختص الصوم بهذه الخاصية لأن ما يمنع النفس عن المعاصي لا بد وأن يكون واجباً
ولعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثر كان الاتقاء عنه أشق والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء فإذا سهل عليكم اتقاء الله بترك المطعوم والمنكوح ، كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أسهل وأخف ([6])
لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين إذ الصوم شعارهم
[1] البخاري 7
[2] تفسير البغوي 1 / 195
[3] تفسير الطبري 3 / 411 مع تصريف توضيحي وستأتي قصة عمر وأبي القيس عند شرح قوله تعالى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَاءكُمْ }
[4] الوسيط 1 / 299
[5] تفسير ابن كثير 1 / 497
[6] تفسير الرازي 3 / 84