الشفاء في الدواء الذي بينته الشريعة وتطبيق العمل به
علمنا أن الحسد هو داء الأمم قبلنا وأنه ليس أمر مقتصر على هذه الأمة ، بل موجود بين النصارى ومن قبلهم اليهود ، بل إلى ما قبل ذلك
بكثير [67]
وهاهي قصة تَعْرُض يوسف للحسد من أقرب الناس إليه على ضعفه وصغره , وهم في شدة الرجولة , يحرمونه من أن ينشأ كأي طفل مع أبيه , ويبيعونه على أنه عبد ولا يستطيع أن يقول أنهم إخوتي حتى لا يقتلوه
فعندما يضع الحاسد نفسه مكان يوسف في هذه المأساة الإنسانية فإنه لا يرضى بظلم هؤلاء الإخوة له وبالتالي لا يرضى أن يكون هو ظالم
قصة أولاد يعقوب في حسدهم لأخيهم يوسف
{ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ(7) } يوسف
كان بنو يعقوب عليه السلام اثنى عشر رجلا , وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوي ويهوذا وزبلون وآشر وأمهم ليل بنت لابان وهي ابنة خال يعقوب عليه السلام وولد له من سريتين له اسم احداهما زلفة والأخرى يلهمه أربعة أولاد دان ونفتالي وجاد وأشير ثم توفيت ليل فتزوج يعقوب عليه السلام أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين
رأى يوسف رؤيا فقصها على أبيه {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ(4)}يوسف
فعلم يعقوب أن إخوته إذا سمعوها حسدوه لمعرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما وكان أحس من بنيه حسدهم ليوسف وبغضهم له فقال يعقوب ليوسف { يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يوسف نهاه عن قص الرؤيا عليهم خوفاً أن تغل بذلك صدورهم فيكيدوا له كيدا فيحتالوا في إهلاكه ويحصل منهم الحسد له فيفعلوا لأجله كيدا مثبتا راسخا لا يقدر على الخلوص منه وهذا من باب الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر
وأخبر يعقوب ابنه يوسف أن ربه سيحقق فيه تأويل تلك الرؤيا فيجعله نبيا ويصطفيه على سائر العباد ويسخرهم له كما تسخرت له تلك الأجرام التي رآها في منامه ساجدة له
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6) } يوسف
فلما بلغت هذه الرؤيا أخوة يوسف حسدوه وقالوا ما رضي أن تسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه فبغوه وحسدوه وقالوا إن أبانا لفي ضلالٍ مبين { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(8)} يوسف
وقالوا ليوسف وأخوه بنيامين أحب إلى أبينا منا وكان يوسف وأخوه بنيامين من أم واحدة وكان يعقوب عليه السلام شديد الحب ليوسف عليه السلام وكان إخوته يرون منه الميل إليه ما لا يرونه مع أنفسهم فقالوا هذه المقالة بأنهم عصبة أي جماعة وكانوا عشرة , فتحول الحسد فيهم إلى مكيدة التخلص منه , فبغوه بالعداوة وقالوا هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم أعدموه من وجه أبيكم ليخلو لكم وحدكم
{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} يوسف اقتلوه أو اطرحوه أرضا تبعد عن أبيه , وتأكله فيها السباع وتستريحوا منه و يخلص لكم ويَصفُ وجه أبيكم عن شغله بيوسف
فلما أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضروب من الحيل , جاءوا أباهم يعقوب عليه السلام { قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ(11) } يوسف
قالوا ما بالك لا تأمنا على يوسف ونحن عاطفون عليه قائمون بمصلحته نحفظه حتى نرده إليك , وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له
وقالوا { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يوسف ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك
قال يعقوب لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ(13) } يوسف أي يشق علي مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع وذلك لفرط محبته له , لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة والكمال في الخَلْق والخُلُق صلوات الله وسلامه عليه , وقال أخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون , فأخذوا من فمه هذه الكلمة وجعلوها عذرهم فيما فعلوه وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة { لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ(14) } يوسف
وتصيدوا التخوف لديه ليقولوا له فيما بعد لقد أكله الذئب
لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقاً غليظاً ليحفظنه وسلمه إلى روبيل وقال يا روبيل إنه صغير وتعلم يا بني شفقتي عليه فإن جاع فأطعمه وإن عطش فاسقه وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي , فأخذوا يحملونه على أكتافهم ولا يضعه واحد إلا رفعه آخر ويعقوب يشيعهم ميلاً ثم رجع فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف فاستغاث بروبيل وقال أنت أكبر إخوتي والخليفة من بعد والدي علي وأقرب الأخوة إلي فاحمني وارحم ضعفي فلطمه لطمة شديدة وقال لا قرابة بيني وبينك فادع الأحد عشر كوكباً فلتنجك منا فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه فتعلق بأخيه يهوذا وقال يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني وارحم قلب أبيك يعقوب فما أسرع ماتناسيتم وصيته ونقضتم عهده فرق قلب يهوذا فقال والله لا يصلون إليك أبدا مادمت حياً ثم قال يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا فردوا هذا الصبي إلى أبيه ونعاهده لا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا فقال له إخوته والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه قال فإن أبيتم إلا ذلك فهاهنا هذا الجب الموحش القفر الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد وقد استرحتم من دمه وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد فأجمع رأيهم على ذلك{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ (15)} يوسف
لقد اجتمعوا على أمر عظيم , اشتمل على جرائم من قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل , والغدر بالأمانة وترك العهد وخطره عند الله , مع حق الوالد على ولده ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه مع مكانه من الله ممن أحبه طفلاً صغيراً وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه فقد احتملوا أمرا عظيما
ولم يكن لهم سبيل إلى قتله لأن الله تعالى كان يريد منه أمرا لابد من إمضائه وإنمائه من الإيحاء إليه بالنبوة ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها , فصرفهم الله عنه بمقالة أقل إخوته حسداً فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب وهو أسفله وهي بئر ببيت المقدس
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} يوسف
ونفذوا مكيدتهم , وألقوه في الجب , ولما جعلوا يدلونه في البئر تعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب فإن مت كان كفني وإن عشت أواري به عورتي فقالوا ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك , فدلوه في البئر حتى إذ بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت فكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام عليها , وشمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة وكان جبريل تحت ساق العرش فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي فهبط حتى عارضه بين الرمي والوقوع فأقعده على الصخرة سالما وكان ذلك الجب مأوى الهوام فقام على الصخرة وجعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة عليه أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فلما وقع عريانا ونزل جبريل إليه وكان إبراهيم حين ألقي في النار عرياناً أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فكان ذلك عند إبراهيم ثم ورثه إسحاق ثم ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه فكان لا يفارقه فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل
ذلك القميص فألبسه إياه
جبريل جاءه بالوحي , أوحي إليه أنه سيلقاهم وسَيُعْرِفهم ما صنعوا بأمره وهم لا يشعرون أنه يوسف { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(15) } يوسف وأعطاه الله النبوة وهو في الجب
ولما قام على الصخرة قال يا إخوتاه إن لكل ميت وصية فاسمعوا وصيتي قالوا وما هي قال إذا اجتمعتم كلكم فآنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي وإذا أكلتم فاذكروا جوعي وإذا شربتم فاذكروا عطشي وإذا رأيتم غريباً فاذكروا غربتي , فقال له جبريل يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء فإن للدعاء عند الله مكان ثم علمه فقال له ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب فقال نعم فقال له قل يا صانع كل مصنوع ويا جابر كل كسير ويا شاهد كل نجوى ويا حاضر كل ملأ ويا مفرج كل كربة ويا صاحب كل غريب ويا مؤنس كل وحيد أتني بالفرج والرجاء واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحداً سواك فرددها يوسف في ليلته مراراً فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب
وهكذا نفذ الإخوة العشرة جريمتهم في أخيهم الغلام الصغير الذي لا حول له ولا حيلة
وبعد أن فعلوا فعلتهم هذه عادوا في نفس اليوم فجاءوا إلى أبيهم ويوسف في البئر قبل أن يخرج
وجاءوا مساءً إلى أبيهم بدموع كاذبة ودم كذب وأقوال كاذبة
{ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ(16) } يوسف
وجاءوا أباهم عشاءً أي ليلًا , وإنما جاءوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة لأن بالنهار قد يتلجلجوا في الاعتذار
فلما سمع يعقوب عليه السلام بكاءهم قال ما بكم أجرى في الغنم شيء قالوا لا قال فأين يوسف { قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ (17) } يوسف
فبكى وصاح وقال أين قميصه , وخر مغشياً عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب
فوضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس ولم يتحرك له عرق فقال لهم يهوذا ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر فأفاق ورأسه في حجر روبيل فقال يا روبيل ألم آتمنك على ولدي ألم أعهد إليك عهدا فقال يا أبت كف عني بكاءك أخبرك فكف يعقوب بكاءه فقال يا أبت إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب
{ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ (18) } يوسف
كان دم سخلة أوجدي ذبحوه , أي جاءوا على قميصه بدم مكذوب فيه
لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التنقيب إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقاً ولا أثراً استدل بذلك على كذبهم وقال له متى كان هذا الذئب حكيماً يأكل يوسف ولم يخرق القميص
لما نظر إليه قال كذبتم لو كان الذئب أكله لخرق القميص
وقال لهم يعقوب تزعمون أن الذئب أكله ولو أكله الذئب لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده وما أرى بالقميص من شق
فقالوا عند ذلك { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17) } يوسف
أي لو كنا موصوفين بالصدق لاتهمتنا
أن يعقوب لما قالوا له فأكله الذئب قال لهم ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به استأنس به ألم يترك لي ثوباً أشم فيه رائحته قالوا بلى هذا قميصه ملطوخ بدمه
فبكى يعقوب عند ذلك وقال لبنيه أروني قميصه فأروه فشمه وبله ثم جعل يقبله فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا فقال والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه أكل ابني واختله من قميصه ولم يمزقه عليه وعلم أن الأمر ليس كما قالوا وأن الذئب لم يأكله فأعرض عنهم كالمغضب باكياً حزيناً وقال يا معشر ولدي دلوني على ولدي فإن كان حياً رددته إلي وإن كان ميتاً كفنته ودفنته , قالوا حينئذ ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا ونأت أبانا أعضائه فيصدقنا مقالتنا ويقطع يأسه فقال يهوذا والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدواً ما بقيت ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم قالوا فإذا منعتنا من هذا فتعالوا نصطد ذئباً , فاصطادوا ذئباً ولطخوه بالدم وأوثقوه بالحبال ثم جاءوا به يعقوب وقالوا يا أبانا إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا شك فيه وهذا دمه عليه فقال يعقوب أطلقوه فأطلقوه وتبصبص له الذئب فأقبل يدنو منه ويعقوب يقول له ادن , ادن حتى ألصق خده بخده فقال له يعقوب أيها الذئب لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا ثم قال اللهم أنطقه فأنطقه الله تعالى فقال والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه ولا مزقت جلده ولا نتفت شعرة من شعراته ووالله مالي بولدك عهد وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخٍ لي فُقِد فلا أدري أحي هو أم ميت فاصطادني أولادك وأوثقوني وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش وتالله لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش فأطلقه يعقوب وقال والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه وأنتم ضيعتم أخاكم وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ (18) } يوسف
أمرا غير ما تصفون وتذكرون ثم قال توطئة لنفسه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)} يوسف
أي فشأني والذي أعتقده صبر جميل , أي فصبر جميل أولى بي
والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه
{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ (19)} يوسف
أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطئوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريباً من الجب وكان الجب في قفزة بعيدة من العمران إنما هو للرعاة والمجتاز وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف فأرسلوا واردهم
والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم وكان اسمه فيما ذكر المفسرون مالك بن دعر من العرب العاربة { فَأَدْلَى دَلْوَهُ } يوسف أي أرسله ليملأه فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر أحسن ما يكون من الغلمان إذا هو قد أعطي شطر الحسن
وكان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوى الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه لا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية وقيل إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة وكانت قد أُعْطِيت الحسن فلما رآه مالك بن دعر{ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ (1)} يوسف والمعنى في نداء البشرى , التبشير لمن حضر أي انتبهوا لفرحتي وسروري{ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} يوسف
كان إخوة يوسف يتعرفون الخبر , فلما رأى يهوذا من بعيد أن يوسف أُخرج من الجب أخبر إخوته فجاءوا وقالوا للواردة بئس ما صنعتم هذا عبد لنا أبق , وقالوا ليوسف بالعبرانية إما تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء وإما أن نأخذك فنقتلك فقال أنا أقر لكم بالعبودية فأقر لهم فباعوه منهم وأسره إخوة يوسف بضاعة ,قيل إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية فإني أخشى إن لم تفعل قتلوك فلعل الله أن يجعل لك مخرجا وتنجو من القتل فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته فقال مالك والله ما هذه سمة العبيد قالوا هو تربى في حجورنا وتخلق بأخلاقنا وتأدب بآدابنا فقال ما تقول يا غلام قال صدقوا تربيت في حجورهم وتخلقت بأخلاقهم فقال مالك إن بعتموه مني اشتريته منكم فباعوه منه
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ (20)} يوسف
فلما شروه فاضت العين عبرة وفي الصدر حزاز من اللوم
باعوه بثمن مبخوس أي منقوص ولم يقصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه
باعوه باثنين وعشرين درهماً وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين
والبخس عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها وذلك أنهم كانوا لا يَزِنُون ما كان دون الأوقية وهي أربعون درهماً
{ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ(20)} يوسف المراد الزاهدين إخوته وقيل السيارة وقيل الواردة وقيل كانوا فيه من الزاهدين أي في حسنه لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراماً له وقيل كانوا فيه من الزاهدين لم يعلموا منزلته عند الله تعالى
وبهذه الجريمة النكراء داوى الإخوة داء الحسد الذي أكل قلوبهم , ولكنهم ما عرفوا أن طريق المجد الذي قضاه الله ليوسف عليه السلام كان من هذا الجب الذي رماه فيه إخوته وهم له حاسدون , وأنهم بعد حين سيذهبون إليه ساجدين , وهو متربع على سرير السلطان في مصر فليعلم الحاسد أن فضل الله كثيراً ما يأتي على أيدي الحاسدين وبوسيلة المكر التي هم لها يمكرون
فالحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل النافع
فمن أدوية الحسد الذي يزيله عن القلب
العلم :
1- معرفة الحاسد أنه لا يضر بحسده المحسود في الدين ولا في الدنيا
2- أن وبال حسده يعود عليه في الدارين , إذ لا تزول نعمة بحسد قط , وإلا لم تبق لله نعمة على أحد حتى نعمة الإيمان , لأن الكفار يحبون زواله عن المؤمنين
3- المحسود يتمتع بحسنات الحاسد لأنه مظلوم من جهة , سيما إذا أطلق لسانه بالانتقاص والغيبة وهتك الستر وغيرها من أنواع الإيذاء , فيلقي الله مفلساً من الحسنات محروماً من نعمة الآخرة كما حرم من نعمة سلامة الصدر وسكون القلب والاطمئنان في الدنيا
4- أنه جر لنفسه بالحسد كل غم ونكد في الدنيا والآخرة
5- من لاحظ جريان أقدار الله على مقتضى إرادته لم يحسد
العمل النافع :
1 - أن يَحكُم الحسد في كل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل , فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه ، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه
2 - إن حمله على التكبر عليه , ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه ، وإن بعثه على كف الإنعام عليه , ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه
3 – إن فعل ذلك عن تكلف , وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه ، ومادام ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه ، وتولد من ذلك ذهاب الحسد من القلب ، لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك
4 - لا يصدّنه عن ذلك قول الشيطان له: لو تواضعت وأثنيت عليه حملك على العجز أو على النفاق أو الخوف وأن ذلك مذلة ومهانة ، وذلك من خداع الشيطان ومكائده ، بل المجاملة تكلفاً كانت أو طبعاً تكسر صورة العداوة من الجانبـين , وتقل مرغوبها وتُعود القلوب
التآلف والتحابب
وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض
وأدوية الحسد هذه نافعة جداً إلا أنها مرة على القلوب جداً ولكن النفع فيها , ومن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء , وإنما تهون مرارة هذا الدواء ، أعني التواضع للأعداء والتقرّب إليهم ، بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها وقوّة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه
والدواء المفضل فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني , فإنها مواد هذا المرض ولا ينقمع المرض إلا بقمع المادة ، فإن لم تقمع المادة لم يحصل بما ذكرناه إلا تسكين وتطفئة ، ولا يزال يعود مرة بعد أخرى ويطول الجهد في تسكينه مع بقاء مواده ، فإنه ما دام محباً للجاه فلا بد وأن يحسد من استأثر بالجاه والمنزلة في قلوب الناس دونه ، ويغمه ذلك لا محالة ، وإنما غايته أن يهون الغم على نفسه ولا يظهر بلسانه ويده ، فأما الخلو عنه رأساً فلا يمكنه والله
لذا فالنجاة إن تيسرت لغيره نعمة ألا يكرهها له , حتى يستوي عنده حسن حال عدوه وسوء حاله ، ولا يدرك في النفس بـينهما تفرقة [68]
2 - الحاسد الذي يبتغي التخلص من مرض الحسد يطبق بالفعل ما علمه
لا شك أن الحسد داء دفين في النفس ، وتأثيره على الحاسد أبلغ من تأثيره على المحسود ، حيث إن الحاسد دائماً معذب القلب ، كلما رأى المحسود وما هو فيه من النعمة والرفاهية تألم لها
لذا فقد يكون الحسد أحياناً داء منصف ، يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود , من أجل ذلك فالذي يبتغي التخلص من مرض الحسد , عليه أن يضيف في الأخذ بالعلاج إلى كل ما سبق الآتي :
أولاً : العلم الذي يمكنه من
1- تصحح مفاهيمه بالقناعات الإيمانية الكافية وذلك بالتبصر والعلم في أن لله حِكم في إعطائه ومنعه , وخفضه ورفعه , وإعزازه وإذلاله , وفي كل ما يأتي به القضاء والقدر
2- معرفة أن الله يعلم ما هو خير لنا فيقدره لنا بفضله
3 - معرفة أن الحرمان قد يكون خيراً للإنسان من العطاء
ومتى صح الفهم عن الله على هذا الوجه اطمأن قلب الإنسان وعلم أن الخير كل الخير مرتبط بما يقضيه الله له من مصيبة أو نعمة
ثانياً : التطبيق
بعد معرفته بما سبق عليه التدريب العملي فلا ينظر إلى ما عند الآخرين من نعم , بل يغض بصره عن ذلك ويعلق قلبه بالله فيسأله من فضله [69]
[67] لقط اللمرجان
[68] الأحياء 3/ 197
[69] حنبكه مع تصريف1/816