الجزاء المترتب على الحسد سواء في دفعه أو العمل به
- الحاسد مؤاخذ على حسده إن كان مصر على حسده وأن لم يخرجه
لقوله صلى الله عليه وسلم :
{ إنما الأعمال بالنيات }[57]
وقوله تعالى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ (284)} البقرة فالمصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها ، وأعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح ، ولهذا يثاب على الحب والبغض ، والموالاة والمعاداة في الله ، وعلى التوكل والرضى ، والعزم على الطاعة ، ويعاقب على الكبر والحسد ، والعجب والشك ، والرياء وظن السوء بالأبرياء [58]
2 - الحاسد الذي يجاهد نفسه على دفع حسده ليس كالحاسد المندفع وراء حسده وتحقيقه
قيد سبحانه شر الحاسد بقوله إذا حَسَد لأن الرجل قد يكون عنده حسد , ولكن يخفيه ولا يرتب عليه أذى بوجه ما , لا بقلبه ولا بلسانه
ولا بيده ، بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك ، ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله ، لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعها ، ولا يأتمر لها بل يعصيها طاعة لله وخوفاً وحياء منه وإجلالاً له أن يكره نعمه على عباده ، فيرى ذلك مخافة لله وبغضاً لما يحب الله ومحبة لما يبغضه , فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك ويلزمها بالدعاء للمحسود وتمنى زيادة الخير له بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد ، ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح , فهذا الحسد المذموم
3 - المجاهد لنفسه في دفعه حسده لا إثم عليه بل لعله مأجور في مدافعته نفسه
يتضح مما سبق الآتي :
1- الحاسد إن وقع له الخاطر بالحسد فدفعه وجاهد نفسه في دفعه فلا إثم عليه , بل لعله مأجور في مدافعة نفسه
2- إن سعى في زوال نعمة المحسود فهو باغ
3 - إن لم يسعى ولم يظهره لمانع العجز , فإن كان بحيث لو أمكنه لفعل فهو مأزور , وإلا فلا , أي لا وزر عليه , لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية , فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها
4 - إن كان بحيث لو ألقى الأمر إليه , ورد إلى اختياره , لسعى في إزالة النعمة , فهو حسود حسداً مذموماً , وإن كان تمنعه التقوى عن إزالة ذلك , فيعفي عنه ما يجده في نفسه من ارتياحه إلى زوال النعمة عن محسوده , مهما كان كارهاً لذلك من نفسه بعقله ودينه
وهذا التفصيل الذي يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم
{وإذا حسدت فلا تبغ }[59]
فالإنسان بعد علمه بما سبق عليه أن يعمل على حفظ نفسه من حسد الآخرين لخطورة الحسد على نفسه فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحسد يفسد في دين المرء أكثر من فساد الذئب في الغنم فقال {ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من الحرص على المال والحسد في دين المسلم وإن الحسد ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب}[60]
ولقوله صلى الله عليه وسلم { لا تحاسدوا ولا تباغضوا }[61]
فيفرغ قلبه من الحسد ليحل محله الإيمان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد }[62]
فيكون بذلك عنده وقاية من هذا الوباء القديم وباء الأمم السابقة بل يكون قد استثني نفسه مما أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
{دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء }[63]
وبذلك يكون فيه الخير سواء لنفسه أو للآخرين , كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا }[64]
لذا ينبغي على المسلم أن يحفظ نفسه من الحسد حتى يسلم صدره للآخرين ليكون ذلك سبباً لدخوله الجنة كهذا الرجل الذي أخبر عنه رسول الله أنه من أهل الجنة والتي فاز بها لأنه كان لا يحمل في نفسه حسداً لأحد
4 - البشرى بالجنة لمن سلم صدره من حسد الآخرين ولو قل عمله
{عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو فقال إني لاحيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت , قال نعم , قال أنس فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل إلا أنه إذا تعار تقلب على فراشه وذكر الله عز وجل وكبر حتى صلاة الفجر , قال عبد الله أني لم أسمعه يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك فأقتدي بك فلم أرك عملت كبير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا حسد على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله هذه التي بلغت بك}[65]
فقول عبد الله بن عمرو له هذه التي بلغت بك يشير إلى خلوه وسلامته
من جميع أنواع الحسد وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار فقال { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (9) } الحجرات أي مما أوتي إخوانهم المهاجرون قال المفسرون لا يجدون في صدرهم حاجة أي حسدا وغيظا مما أوتى المهاجرون من المال ولا من الجاه , والحسد يقع على هذا [66]
[57] البخاري
[58] ابن القيم
مصنف عبدالرزاق 19504 ,10 / 403, شعب الايمان 117 , 2 / 62 , [59] الألباني في السلسلة الصحيحة 3942 قال الحديث ثابت
[60] الترمذي وبدل الحسد الشرف 2376وقال حسن صحيح , ضعفه الألباني في الترغيب 1726 , حسنه محققوا الترغيب 4257 وعزاه المنذري لرازين
[61] مالك 2/908 والبخاري 6064
[62] المسند 2/340 , النسائي 31009 , ابن حبان 4587 البيهقي 6609 , حسنه الألباني في الترغيب 2886
[63] البزار 2002 , البيهقي في الشعب 8747 , حسنه الألباني في الترغيب 2888
[64] الهيثمي في المجمع 8/78 رواه الطبراني ورجاله ثقات , حسنه الألباني في الترغيب 2887
[65] الهيثمي في المجمع 8/78 رواه أحمد 3/166والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح , المنذري قال رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي في اليوم والليلة 863 , ضعفه الألباني في الترغيب 1728 , حسنه محققوا الترغيب 4260
[66] فتاوى ابن تيمية 19/10