سبب أول في التحريم السؤال عن الخمر
كان من المؤمنين كعمر بن الخطاب الذي كان يذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر, وما ينزل بالناس من أجلها وكان يسأل عنها ويقول اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً وكذا معاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل ([4]) والمال حتى نزلت
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [البقرة 219]
فهذه الآية أول تطرُّق إلى تحريمِ الخمر ([5]) فهي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم
قوله تعالى { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}
الإثم فهو في الدين, لزوال العقل ([6]) الذي يعرف به ما يجب لخالقه, وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله
وما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة ([7]) وقول الفحش والزور إلى غير ذلك
وأما المنافع فدنيوية لأنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بالثمن الغالي وفيها نفع للبدن كإصلاح المعدة وتهضيم الطعام وإخراج الفضلات, وغير ذلك من اللذة المطربة التي فيها
ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين فالمفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظمُ من الفوائد المترتبة عليه ولهذا قال الله تعالى { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا }
فأعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع , وأعود بالضرر في الآخرة([8]) ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة ([9])
فترك أُناس الخمر من أول وهلة فهموا المقصود من الآية وعلموا أنه تحريم غير مباشر وقالوا لا حاجة لنا فيما فيه إثم ([10]) منهم عثمان بن مظعون ([11])، وقيل حرمت الخمر ([12])
وأُناس قالوا ما حرم علينا ([13]) إنما قال { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}, وقالوا يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله تعالى فسكت عنهم([14]) وظلوا يتعاطونها
ولهذا قال عمر رضي الله عنه اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً لما دُعيَّ وقُرِئت عليه الآية
وظل هؤلاء الذين قالوا نترك الإثم ونأخذ النفع يتعاطون الخمر حتى كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم, حتى كان يوماً من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمام الصحابة في المغرب فخلط في قراءته ([15]) فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون, وأنتم عابدون ما أعبد إلى آخرها بطرح اللا آت ([16])
[4] البغوي وزاد المسير وكذا الألوسي في تفسيرهم عند شرح الآية 219 من سورة البقرة
[5] الثعلبي في تفسيره عند شرح الآية 219 من سورة البقرة
[6] فمن مفاسد الخمر إزالة العقل الذي هو أشرف صفات الإنسان
وقد سمى عقلا لأنه يعقل أي يمنع صاحبه عن القبائح التي يميل إليها بطبعه فإذا شرب زال ذلك العقل المانع عن القبائح وتَمكن آلفها وهو الطبع في أرتكبها والإكثار منها وربما كان ضحكة للصبيان حتى يرتد إليه عقله, ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول بيده ويغسل به وجهه كهيأة المتوضيء ويقول الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا
وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك فقال ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم, ذكر ذلك الألوسي في تفسيره عن0د شرح الآية 219 من سورة البقرة
إن الإنسان إذا ألفها اشتد ميله إليها وكاد يستحيل مفارقته لها وتركه إياها وربما أورثت فيه أمراضا كانت سبباً لهلاكه وقد ذكر الأطباء لها مضار بدنية كثيرة كما لا يخفى على من راجع أهل الطب , ولم يثبت أن الأنبياء عليهم السلام شربوها في وقت أصلاً
[7] الشوكاني في فتح القدير عند شرح الآية 219 من سورة البقرة
[8] وليعلم الآن أن الإثم كبير بعد التحريم , والمنافع كانت قبل التحريم فإن ما يتعلق بالتجارة فيها فقد حرم وما يتعلق بالتداوي بها في الهضم وإخراج الفضلات والشجاعة وغيره فإن الله { لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم } الدواء الخبيث هو الخمر بعينه الحاكم 4/55 وصححه وصحح إسناده متمم عمل أحمد شاكر 9755
ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الخمر يصنع للدواء قال {إنها ليست بدواء , ولكنها داء} الترمذي 2046 وقال حسن صحيح , وهناك علاجات لهذه الأشياء بالطرق المشروعة كثيرة , وكذا ما يتعلق بتخليلها أي تحويلها لخل للانتفاع به لا يجوز
[9] ذكره ابن كثير في تفسيره عند شرح الآية 219 من سورة البقرة
[10] ذكره السمرقندي في تفسيره عند شرح الآية 219 من سورة البقرة
[11] ذكره السيوطي في تفسيره الدر المنثور عند شرح الآية 91 من سورة المائدة
[12] تلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حراماً لأنّ ما يشتمل على الإثم مُتّصف بوصف مناسب للتحريم، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها، فحدث بعد ثلاث سنوات ما جاء في حديث علي من الخطأ في قرأة القرآن في الصلاة بسبب السكر, ذكره في تفسير التنوير والتحرير عند شرح الآية 43 من سورة النساء
[13] ذكره الألوسي في تفسيره عند شرح الآية 219 من سورة البقرة, وذكره السيوطي في تفسيره الدر المنثور عند شرح الآية 91 من سورة المائدة
[14] ذكره السيوطي في تفسيره الدر المنثور عند شرح الآية 91 من سورة المائدة عن ابن عمر وعزاه لطيالسي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب
[15] ذكره السيوطي في تفسيره الدر المنثور عند شرح الآية 91 من سورة المائدة
[16] ذكره في تفسيره روح البيان عند شرح الآية 43 من سورة النساء