طهارة القلب من القسوة
من الطهارات المعنوية الباطنية الصغرى الواجبة على الإنسان تحقيقها طهارة قلبه من القسوة
قسوة القلب خلق مناقض لخلق الرحمة فقسوة القلب مرض من الأمراض الخلقية
يجفف في داخل النفس الإنسانية عاطفة الإحساس بآلام الآخرين وحاجاتهم
ويشتد هذا المرض ويشتد معه الجفاف النفسي حتى ينعدم الشعور بالواجب
الفطري نحو الخالق المنعم الذي متى شاء سلب النعم كلها منها نعمة
الحياة وفي هذه الحالة من حالات الجفاف النفسي تمسي القلوب مثل الحجارة
التي لا ترشح بأي عطاء أو أشد قسوة من الحجارة لآن من الحجارة ما تتشقق
قسوته الظاهرة فيندفع العطاء من باطنه الرخو ماءً عذباً نقياً ولكن بعض
الذين قست قلوبهم يجف من أغوارها كل أثر للفيض والعطاء
فقسوة القلب تجعل صاحبها يحرف الكلم وينسى أوامر الرحمان فهي لعنة من
الله على صاحبها قد تشتد هذه القسوة حتى تجعل قلب صاحبها أشد قسوة من
الحجارة وأصلب من الحديد فلا يلين للحق، ولا يصغي للناصحين ولا ينفع
فيه وعظ ولا تذكير ولا يتبع الحق حين يأتيه نذير، ويقابل آيات الله
البينات بالإعراض والتكذيب والمعارضة، فأي عتو أكبر من هذا العتو؟
ولذلك تبطل أعماله وتضمحل، ويخسر أشد الخسران، ويحرم غاية الحرمان
ومن أعظم أسبابها نقض العهود
وإطالة الأمد في الفسوق وعدم التضرع لله
ولذا يجب على الإنسان أن يطهر قلبه من القسوة بأن يخشع قلبه بذكر الله
الذي فيه حماه
قال تعالى { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا
يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ (16)} [الحديد]
فصاحب القلب القاسي بعيد عن سَمَاعِ الْحَقِّ، وَيمَيْلُ إِلَى
مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ وَقِلَّةُ الْخَشْيَةِ وَعَدَمُ الْخُشُوعِ
وَالْبُكَاءِ، وَكَثْرَةُ الْغَفْلَةِ عَنْ دَارِ الْبَقَاءِ إذ القلب
القاسي لا يقبل الحق وإن كثرت دلائله
قال تعالى {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ
أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22]
فويل للذين غلظت قلوبهم عن قبول ذكر الله
فما ضرب عبد بعقوبة اعظم من قسوة قلبه وما غضب الله على قوم الا نزع
منهم الرحمة
فعلى الإنسان أن يتقبل تعاليم الإِسلام وأخلاقه وآدابه لأنها تكسب
المسلم فرحاً بحاله ومسرة برضى ربه واستخفافاً للمصائب والكوارث لجزمه
بأنه على حق في أمره وأنه مثاب على ضره وأنه راجيً رحمة ربه في الدنيا
والآخرة ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره
فإن المؤمن الذي يؤمن بأن الله واحد وأن محمداً صلى الله عليه وسلم
رسوله ينشرح صدره فيشعر بعزة نفسه وهو يقرأ القرآن وينطق عن الحكمة
ويتسم بمكارم الأخلاق وأصالة الرأي ومحبة فعل الخير لوجه الله لا
للرياء والسمعة ، ولا ينطوي باطنه على غلّ ولا حسد ولا كراهية في ذات
الله وأصبح يُعد المسلمين لنفسه إخواناً وإذا مسه ضر رجا زواله ولم
ييأس من تغير حاله وأيقن أنه مثاب على تحمله وصبره ، وإذا مسته نعمة
حمد ربه وترقب المزيد ، فكان صدره منشرحاً بالإِسلام متلقياً الحوادث
باستبصار غير هياب شجاع القلب عزيز النفس
فليتطهر الإنسان من قسوة القلب وعدم تلينه لكتاب الله، ومن عدم تذكر
آياته، ومن عدم الاطمئنان بذكره، فلا يعرض عن ربه، ولا يلتفت إلى غيره،
حتى لا يوقع نفسه في الويل الشديد، والشر الكبير
فإن أصحاب القلوب القاسية { أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وأي ضلال
أعظم من ضلال من أعرض عن وليه؟ ومن كل السعادة في الإقبال عليه، وقسا
قلبه عن ذكره، وأقبل على كل ما يضره؟ لأن المباح من الكلام إذا كثر
بغير ذكر الله يقسي قلب صاحبه ويبعده عن رحمة الله فقد قال صلى الله
عليه وسلم { لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر
الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي } ([38])
فهو قلب لا يخشع لذكر الله سبحانه ولا لاستماع كلام مولاه وهو القلب
القاسي الذي هو أبعد القلوب من حضرة علام الغيوب
والإنسان عليه أن يطهر قلبه من القسوة بالإلحاح على الله بالدعاء وخاصة
عندما يصاب بضر أو بأس
قال تعالى {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ
قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (43)} [الأنعام]
فالأنسان الذي يصاب بالبأس بشدة فقر وجوع أو ضر
بمصائب في المال والنفس عليه أن يخضع ويخشع ويذل لله بالسؤال أن
يكشف ما نزل به فيلين قلبه لله فترفع عنه المصائب وتزول الشدة لأن
التضرع ينشئ من لين القلب
فالآية الكريمة تصور لنا لوناً من ألوان العلاج النفسي الذى عالج الله
به الأمم التي تكفر بأنعمه ، وتكذب أنبياءه ورسله، إذ أن الآلام
والشدائد علاج للنفوس المغرورة بزخارف الدنيا إن كانت صالحة للعلاج
فإن من الناس من إذا جاءهم البأس لا يتضرعوا ولم يكن لهم عذر في ترك
التضرع إلا عنادهم وقوست قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي يزينها لهم
الشيطان الذي يغويهم ويدعوهم الى اللذة والراحة دون التفكر والتدبر ولم
يخطر ببالهم ان ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم الا لقسوت
قلوبهم
فتزداد قلوبهم غلظة وتجمد وتصير أشد قسوة فيحيل ذلك بينهم وبين التضرع
إلى الله والتوبة إليه
لم يتضرعوا ولكن يبست وجفت قلوبهم ولو كان في قلوبهم رقة وخوف لتضرعوا
لكن هناك ناس وصفت قلوبها من قسوتها بأنها كالحجارة التي هي أشد قسوة
من الحديد، لأن الحديد تلينه
النار وهو قابل للتليين والحجر لا يلينه نار ولا شيء فقلوب هؤلاء لا
تنقاد ولا تلين ولا تخشع ولا تفعل ما امرت به
والإنسان عليه يطهر قلبه من القسوة بالإكثار من المسح على رأس اليتيم {
شكا رجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال امسح رأس
اليتيم وأطعم المسكين } ([39])
{وأتاه رجل يشكو إليه قسوة القلب فقال : أدن اليتيم وامسح برأسه وأطعمه
من طعامك ، يلن قلبك وتقدر على حاجتك }
إن أردت تليين قلبك ألطف باليتيم فقل عند مسح رأسه جبر الله يتمك وجعلك
خلفا من أبيك
وأطعمه من طعامك أي مما تملكه من الطعام ولا تؤثر نفسك عليه بنفيس
الطعام وتطعمه دونه بل أطعمه مما تأكل منه يلين قلبك وتدرك حاجتك أي
فإنك إن أحسنت إليه وفعلت ما ذكر يحصل لك لين القلب وتظفر بالمطلوب فإن
مسح رأسه سبب مخلص من قسوة القلب المبعدة عن الرب
فإن من ابتلي بداء من الأخلاق الذميمة يكون تداركه بما يضاده من الدواء
فالتكبر يداوى بالتواضع والبخل بالسماحة وقسوة القلب بالتعطف والرقة
فإن صاحب القلب الرقيق من أصحاب الجنة قال صلى الله عليه وسلم { أهل
الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي
قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال } ([40])
والإنسان عليه أن يطهر قلبه من كثرة الضحك لأنه من القسوة التي تميت
القلب قال صلى الله عليه وسلم { لا تكثروا الضحك ؛ فإن كثرة الضحك تميت
القلب } ([41])
فكثرة الضحك تصيره مغمورا في الظلمات بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه
بنافعة ولا يدفع عنها شيئا من مكروه
وحياته وإشراقه مادة كل خير وموته وظلمته مادة كل شر وبحياته تكون قوته
وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه
وكثرة الضحك تورث قسوة القلب
وهي مفضية إلى الغفلة وليس موت القلب إلا الغفلة ويذهب بنور الوجه أي
بإشراقه وضيائه وبهائه فكثرة الضحك والفرح بالدنيا سم قاتل يسري إلى
العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة وهذا هو
موت القلب
والضحك المميت للقلب ينشأ من الفرح والبطر بالدنيا وللقلب حياة وموت
فحياته بدوام الطاعة وموته بإجابة غير الله من النفس والهوى والشيطان،
بتواتر أسقام المعاصي تموت الأجسام بأسقامها
وفي هذا زجر عن كثرة الضحك وحث على كثرة البكاء والتحقيق بما سيصير
المرء إليه من الموت والفناء
ومن علاج قسوة القلوب زيارة القبور فإنها تذكر الموت
فليس للقلوب سيما القاسية أنفع من زيارة القبور فزيارتها وذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ويذهب الفرح بالدنيا ويهون المصائب ومن أعظم ما يعين الإنسان في لين قلبه أن يطلب من الله صلاحه كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله
{ اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع }
{ اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك
[38]
صححه الألباني
في الصحيحة 3599
[39]
صححه الألباني
في الصحيحة 506