توبة قاتل المائة

الإنسان حوله أعداء كثيرون يحسِّنون له القبيح ، ويقبحون له الحسن ، ويدعونه إلى الشهوات ، ويقودونه إلى الرزيلة، لينحدر في موبقات الذنوب والمعاصي ومع وقوعه في الذنب ، وولوغه في الخطئية ، فقد يصاحب ذلك ضيق وحرج
لكن الله بلطفه ورحمته فتح لعباده أبواب التوبة ، وجعل فيها ملاذاً مكيناً ، وملجأ حصيناً ، يَلِجُه المذنب معترفا بذنبه ، مؤملاً في ربه ، نادماً على فعله ، غير مصرٍ على خطيئته ، ليكفر الله عنه سيئاته ، ويرفع من درجاته
وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجل أسرف على نفسه ثم تاب وأناب فقبل الله توبته
 والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُلَّ على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا ، فهل له من توبة ، فقال : لا ، فقتله فكمل به مائة ، إني قتلت تسعة وتسعين نفسا فهل لي من توبة ؟ قال : بعد قتل تسعة وتسعين نفسا ؟ فانتضى سيفه فقتله به فأكمل به مائة ثم عرضت له التوبة فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُلَّ على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة،  فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ،) فأتاه فقال إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة ؟ فقال له ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة قرية كذا وكذا ( فإن بها أناسا يعبدون الله ) فاعبد ربك ( معهم ) فيها ( ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ): انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك ، فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت فخرج إلى القرية الصالحة فعرض له أجله ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط ، فبعث الله عز وجل ملكا ( في صورة آدمي ) فاختصموا إليه أتاهم ملَكٌ في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقايسوا بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له  
فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة
هذه قصة رجل أسرف على نفسه بارتكاب الذنوب والموبقات ، حتى قتل مائة نفس ، وأي ذنب بعد الشرك أعظم من قتل النفس بغير حق ؟! ، ومع كل الذي اقترفه إلا أنه كان لا يزال في قلبه بقية من خير ، وبصيص من أمل يدعوه إلى أن يطلب عفو الله ومغفرته ، فخرج من بيته باحثاً عن عالم يفتيه ، ويفتح له أبواب الرجاء والتوبة ، ومن شدة حرصه وتحريه لم يسأل عن أي عالم ، بل سأل عن أعلم أهل الأرض ليكون على يقين من أمره
 فدُلَّ على رجل راهب والمعروف عن الرهبان كثرة العبادة وقلة العلم ، فأخبره بما كان منه ، فاستعظم الراهب ذنبه ، وقنَّطه من رحمة الله ، وازداد الرجل غيّاً إلى غيِّه بعد أن أُخْبِر أن التوبة محجوبة عنه ، فقتل الراهب ليتم به المائة
ومع ذلك لم ييأس ولم يقتنع بما قال الراهب ، فسأل مرة أخرى عن أعلم أهل الأرض  ، وفي هذه المرة دُلَّ على رجل لم يكن عالماً فحسب ولكنه كان مربياً وموجهاً خبيراً بالنفوس وأحوالها ، فسأله ما إذا كانت له توبة بعد كل الذي فعله ، فقال له العالم مستنكرا ومستغربا : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟! ، وكأنه يقول : إنها مسألة بدهية لا تحتاج إلى كثير تفكير أو سؤال ، فباب التوبة مفتوح ، والله عز وجل لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ورحمته وسعت كل شيء ، وكان هذا العالم مربيا حكيما ، حيث لم يكتف بإجابته عن سؤاله وبيان أن باب التوبة مفتوح ، بل دله على الطريق الموصل إليها ، وهو أن يغير منهج حياته ، ويفارق البيئة التي تذكره بالمعصية وتحثه عليها ، ويترك رفقة السوء التي تعينه على الفساد ، وتزين له الشر ، ويهاجر إلى أرض أخرى فيها  أقوام صالحون يعبدون الله تعالى ، وكان الرجل صادقا في طلب التوبة فلم يتردد لحظة ، وخرج قاصدا تلك الأرض ، ولما وصل إلى منتصف الطريق حضره أجله ، ولشدة رغبته في التوبة نأى بصدره جهة الأرض الطيبة وهو في النزع الأخير ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ،كل منهم يريد أن يقبض روحه ، فقالت ملائكة العذاب : إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيراً أبدا ، وقالت ملائكة الرحمة إنه قد تاب وأناب وجاء مقبلا على الله ، فأرسل الله لهم ملكا في صورة إنسان ، وأمرهم أن يقيسوا ما بين الأرضين ، الأرض التي جاء منها ، والأرض التي هاجر إليها ، فأمر الله أرض الخير والصلاح أن تتقارب ، وأرض الشر والفساد أن تتباعد ، فوجدوه أقرب إلى أرض الصالحين بشبر ، فتولت أمره ملائكة الرحمة ، وغفر الله له ذنوبه كلها
إن هذه القصة تفتح أبواب الأمل لكل عاص ، وتبين سعة رحمة الله ، وقبوله لتوبة التائبين ،  مهما عظمت ذنوبهم وكبرت خطاياهم كما قال الله : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } [الزمر: 53، 54] ، ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله ومغفرته ، فقد ظن بربه ظن السوء  ، وكما أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب ، فكذلك القنوط من رحمة الله ، قال عز وجل : {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) } [يوسف: 87، 88]
ولكن لا بد من صدق النية في طلب التوبة ، وسلوك الطرق والوسائل المؤدية إليها والمعينة عليها ، وهو ما فعله هذا الرجل ، حيث سأل وبحث وقبل التوجيه مباشرة ، فضحى بسكنه وقريته وأصحابه في مقابل توبت
 والقصة أيضاً تعطي منهجاً للدعاة للمربين للمعالجين بألا ييأسوا من إنسان مهما بلغت ذنوبه وخطاياه ، فقد تكون هناك بذرة خير في نفسه تحتاج إلى من ينميها ويسقيها بماء الرجاء في عفو الله والأمل في مغفرته ، وألا يكتفوا بحثِّ العاصين على التوبة والإنابة ، بل يضيفوا إلى ذلك تقديم البدائل والأعمال التي ترسخ الإيمان في قلوب التائبين ، وتجعلهم يثبتون على الطريق ، ولا يبالون بما يعترضهم فيه بعد ذلك   
وفي القصة بيان لأثر البيئة التي يعيش فيها الإنسان والأصحاب الذين يخالطهم على سلوكه وأخلاقه ، وأن من أعظم الأسباب التي تعين الإنسان على التوبة والاستقامة هجر كل ما يذكر بالمعصية ويغري بالعودة إليها ، وصحبة أهل الصلاح والخير الذين يذكرونه إذا نسي ، وينبهونه إذا غفل ، ويردعونه إذا زاغ أي عن يبتعد عن الأماكن والأشخاص والمواد التي تذكره بالمعصية  
وفيها كذلك أهمية العلم وشرف أهله ، وفضل العالم على العابد فالعلماء هم ورثة الأنبياء جعلهم الله بمنزلة النجوم يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر فعلى مريد التوبة الذي يطلب المساعدة يطلبها ممن تتوفر فيه شرطين الأول أن يعينه على طاعة الله وأن يكون عنده علم عن الله وقد تبين أن الذي لا يحمل العلم وإن كان صالح في نفسه فقد يتسبب في انتكاسة الإنسان ورده إلى المعصية كما حدث من الراهب أما صاحب العلم فهو مصلح يوجه للصلاح  
لنا مع هذه القصة وقفات
الوقفة الأولى
 تأملات مع أحوال النفس البشرية
كلما قَرُبت النفس من خالقها، كانت هادئة مطمئنة، وإن كانت تعاني وتكِدُّ وتكدح، وكلما بعدت عن بارئها، كانت في ضنك وضيق، وإن كانت تنعم بأعظم النعم الدنيوية
انظر إلى قاتل المائة نفس، قتل تسعة وتسعين نفسًا، كانت عائقًا أمامه عن دنيا يصيبها، ثم أتمهم مائة بمن كان عائقًا أمامه عن التوبة، عن الطريق إلى الله
لقد تاه وضل، إنه يبحث عن الطريق، أو مَنْ يَدُلُّه على الطريق، لقد أراد أن يُغَيِّر حياته، وسعى إلى ذلك بِجِد، حتى عثر على من يدلُّه على الطريق، وسلك الطريق إلى الله
سقط قبل أن يصل، لكنه سلك الدرب عازمًا على المضي حتى نهايته
انظر إلى النفس البشرية في أحلك صورها، لا تعدم الخير كليًّا، هناك بصيص من نور في الأعماق
لحظات قصيرة من القرب من الله والاتجاه إليه، رجحت بحياة طويلة عريضة في التيه والضلال، وكأني أمام حديث: ((يؤتى بأبأس أهل الأرض في الدنيا من أهل الجنة، فَيُغْمَس في الجنة غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيْتَ بؤسًا قط، هل ذقْتَ بؤسًا قَطُّ؟ فيقول: لا، والله، ما ذقْتُ بؤسًا قط))
غمسة واحدة في الجنة أنْسَتْه كل ما مر به من بؤس وعذاب، كذلك غمسة واحدة في واحة الإيمان تُطَهِّر العبد من كل ما عَلِق به من ذنوب وآثام
غمسة واحدة في نهر العبودية لله تُذهِب كلَّ الأدران، سبحان ربي العظيم
كم هي واسعة رحمةُ رب العالمين
انظر إلى هذا العبد، إنه لم يَغْتَب مائة نفس، بل قتل مائة نفس، وإنه عمل شنيع، ومن أكبر الكبائر، ولكنه لم يُخْرِجْه من رحمة أرحم الراحمين
وَلْنتأمَّلِ الكلماتِ في الحديث "فسأل - فَدُلَّ - فقتله - فانطلق - فنأى" كلها توحي بالسرعة والعَجَلة، هو قَلِقٌ حائر، يريد أن يهدأ ويرتاح، ولا راحة إلا بالعبودية لله، ولا راحة إلا في طاعة الله ونتأمل أمرًا آخر في غاية الأهمية، إنه رغم العجلة والسرعة فإنه مات في منتصف الطريق، فماذا لو لم يعجل؟ ماذا لو تراخى وأجَّلَ؟ ربما أدركه الموت قبل أن يتوب، فتنقلب النهاية
الوقفة الثانية
توجيه لمن يساعد الأخرين من المصلحين والمعالجين
أن يكون الموجه معالج كان أو مصلح بصيرًا بالواقع كما كان العالِمُ بصيرًا بواقعه، عالِمًا بحال أهل هذه القرية أن يترفق بالناس ويكون مفتاحًا للخير، مِغلاقًا للشر، وأن يبث الأمل في النفوس ألا يَيْئس من الناس ويَمَل, بل يحاول الدعوة مراتٍ ومراتٍ، حتى تنفتح مغاليق القلوب، فالنفس لا تعدم الخير كليًّا، فقط تحتاج المفتاح المناسب إن أراد الله لها الهداية
الوقفة الثالثة
مع من وقع في معاصي مهما عظمت ألا يَيْئَس من رحمة الله التي وسعت أن يبادر بالتوبة، ويسرع إلى ذلك قدْرَ وُسْعِه وطاقته، ولا يُسَوِّف ولا يُؤَجِّل "سارعوا، سابقوا"
أن يبتعد عن كل رذيلة، فينأى بعقله عن الأفكار المُعْوَجَّة، وينأى بقلبه عن الشبهات المبثوثة، وينأى بجوارحه عن الشهوات المحرمة ألا ينخدع في الناس، ويستفرغ وسعه في التعلم من أهل العلم الْمُحَقِّقين
أن يُتْبِعَ السيئة الحسنة تمحوها؛ إن الحسنات يُذهِبْنَ السيئات البعد عن أهل الضلال والزَّيغ والبدع والأهواء، ومصاحَبة أهل العلم والفضل
وحال المؤمن لا ينفكُّ أبدًا عن منزلة التوبة، فهي مصاحِبة له دائمًا، ويطلبها في هفواته، في تقصيره، في غفلته، حتى في طاعته وبالتوبة ينتقل العبد من حال إلى حال، من الذنب إلى الطاعة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الكسل إلى النشاط، ومن العجز إلى الهِمَّة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن الجزع إلى اليقين، ومن التفكير الأعوج، إلى التفكير المستقيم