المنافسة
نبدأ بهذه المنزلة التي لا يكاد يخلو منها أحد إذ هي من
الدوافع الفطرية الطبيعية التي لا يملك الإنسان دفعها , والتي تعتبر من
الحوافز التي تدفع الإنسان إلى طلب الكمال الذي يمكن الوصول إليه , لذلك
كان الحرج مرفوع عنها
ولكن للحسد المأذون به في حدود هذه المنزلة ضابطان يصونان
عن الانحراف إلى ما لا خير فيه , وعن الانسياق وراء التمنيات الشاغلة للفكر
, والقاتلة للعمر , من غير فائدة ترجى , ولا منفعة يمكن الوصول إليها
ألا تكون النعمة من الخصائص التي اصطفى الله بها بعض خلقه
بالتكوين الفطري أو بالمنح الخاصة التي لا تأتي عن طريق السعي والكسب
الإنساني
وذلك لأن شغل الفكر والنفس بتمنيات من هذا القبيل مضيعة
للوقت ومقتلة للعمر ومزلقة تهوي بالنفوس والقلوب إلى دركات الحسد
المذموم وتعيشه في أحلام اليقظة دون أن يحقق شيء
فمثلاً النبوة نعمة عظيمة لكنها من المنح الخاصة التي لا
تأتي عن طريق السعي والكسب الإنساني فلا يتمناه الإنسان فإنه لا يستطيع
تحقيقها
أو امرأة ذات حسن وجمال وتأتي امرأة أخرى ليس بها جمال
وتتمنى أن تكون مثل هذه الوضاءة فإنها مهما استخدمت من أدوات تجميل أو حتى
لو نزعت بعمليات التجميل طبقة الجلد التي عليها اللون لتظهر الطبقة البيضاء
التي تحتها فأنه بياض ليس بياض ناصع يبهر العيون لكنه بياض يجزع النفس ولا
يبلغها جمال أختها
فهذه النعمة لا يتوفر فيها الضابط الأول لعدم الوصول
إليها بكسب الإنسان
فلا بد للنعمة التي يتمناها أن يستطيع الوصول إليها
بمجهوده
أن تكون النعمة التي يستطيع الوصول إليها بالسعي والكسب
الإنساني من النعم التي تنفع الإنسان في آخرته
فمثلاً نعمة حُسن الصوت , عندما ينظر إنسان إلى مغني
وإعجاب الكثير به وأن شريطه الغنائي يطبع بكثرة ويتمنى أن يكون صوته في هذا
الحسن , فإنه يستطيع ذلك , إذا تعلم أحكام التجويد بل وربما يكون صوته أحسن
من هؤلاء الذين تَحسن صوتهم بسلمهم الموسيقي
فهنا نعمة حُسن الصوت يستطيع أن يبلغها بكسبه ويكون توفر
فيها الضابط الأول لكن هل الغناء نعمة ترضي عنه ربه وتنفعه في آخرته , لا
بل هي نقمة على صاحبها فلا يتمنى مثلها لعدم توفر الضابط الثاني فيها
والذي ينافس في المعصية آثم , قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم
{مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر , رجل آتاه الله مالا
وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه , ورجل آتاه الله علما ولم يؤته
مالا فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل فهما في الأجر
سواء , ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله ينفقه في غير
حقه , ورجل لم يؤته الله علما ولا مالا فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت
فيه مثل الذي يعمل فهما في الوزر سواء}
فهذا الأخير ذمه رسول الله من جهة تمنيه للمعصية لا من
جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ما له
وعندما يكون إنسان واقع في معصية من المعاصي كالزنى أو
اللواط أو المخدرات أو السرقات أو الربا أو ظلم الناس مثلاُ ووجد إنسان كان
واقعاً في معاصي مثله أو أقل أو أكثر ثم تاب وانصلحت أحواله والتزم بطاعة
الله وظهر عليه علامات الصلاح ويبتغي هذا الواقع في المعصية أن يتوب ويكون
مثل هذا التائب أو أحسن منه فهذه نعمة عظيمة نعمة التوبة فيتوب لله وقد
نحقق فيها الضابط الأول لأنه يستطيع أن يبلغ التوبة بكسبه وتحقق فيها
الضابط الثاني أيضاً لأنه إذا تاب أحبه ربه ورضي عنه وهذا ما ينفعه في
الآخرة
وهكذا تعرض النعم على الضابطين فإن توفرا فيها فنعم النعم
وإن لم يتوفرا هذان الضابطان فتترك هذه النعمة على أنها
نعمة من مظاهر الحياة الدنيا والتي تعتبر من مجالات الابتلاء لصاحب هذه
النعمة
ويحذر مما يقع فيه بعض الناس من السباق والتنافس في الشر
كما هو حال بعض الواقعين في الإدمان عندما يُنظر إلى تاجر المخدرات الكبير
في في الحي وما له من جاه عند المدمنين فينبهر به ويتمنى حاله وجاهه مثلاً
, نعم الجاه هنا يستطيع أن يبلغه الإنسان عندما يخبر عن تجار المخدرات
الموجودين في الحي ويكون هو وحده البائع في الحارة سيكون هو التاجر الكبير
وسيجد مال وجاهه
لكن هل التجارة
في المخدرات وشرها المستطير الذي بسبه تدمر أسر وتهدم بيوت عندما يفسد
راعيها بالإدمان أو يضيع ابنهم وقد يكون الوحيد عندهم وقضى الأب والأم
العمر وهما يتخيلون مستقبله الباهر أو أولاد كانوا يشعرون بأمان مع أبيهم
وإذا هو يدمن المخدرات وتتغير أخلاقه فيطلق الزوجة ويتشرد الأولاد وتتبدل
الفرحة بالأب إلى الخوف من نظرة الآخرين لأولاد المدمن , ناهيك عن تدمير
المدمن بالرمي في السجون أو الموت بجرعة زائدة
فهل بائع المخدرات صاحب هذا الشر الذي يفسد الأفراد
والأسر والجماعات ينبهر بجاهه , إن مثله كان الضعف له واستهانة الناس به
أسلم له من هذا الجاه الذي يتم به إيذاء الناس والإضرار بهم
وبنفسه وخسرانه أخرته
فعلى المدمن بدلاً من سعيه ليكون مثل هؤلاء , عليه أن
يسعى ويتنافس مع من تاب وانصلح حاله واشتغل بالدعوة إلى الله لنشر الخير
والصلاح فينجو بنفسه ويترك التعاطي لله ليكسب دنياه وأخرته
فالقصد من المنافسة الغنى عن طلب التنافس في الدنيا
وعاجلها , بما أحبه الله لنا وندبنا إليه من التنافس في الآخرة ، وما أعد
لنا فيها ، وأباح الغبطة في ذلك ، وأغنانا بها عن الحسد على الدنيا
وشهواتها
وهذان الضابطان مستنبطان مما جاء في كلام رسول الله صلى
الله عليه وسلم
{لا حسد إلا في اثنتين رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه
آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان
فعملت مثل ما يعمل ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل ليتني
أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل}
ففي هذا الحديث توفر الضابط الأول لأن المسلم باستطاعته
تعلم العلوم الشرعية من حفظ القرآن وفقه وهو الحكمة أو في الحصول على المال
فكل هذا يستطيع المسلم أن يبلغه بعمله وكسبه ويرضي ربه بصرف هذه النعم في
طاعة الله فينفعه ذلك في الآخرة ويكون بذلك توفر الضابط الثاني
والضابطان مستنبطان أيضاً مما جاء في القرآن
الدليل الأول :
قصة اعتراض النساء على المواريث
لما نزلت آية المواريث والتي أعطت للذكر مثل حظ الأنثيين
بعض النساء تمنين منازل الرجال وأن يكون لهن مالهم فتمنى النساء أن لو جُعل
أنصباؤهن كأنصباء الرجال , وقالوا نحن أحوج لأن يكون لنا سهمان وللرجال سهم
واحد , لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا وذكر عن أم سلمة
أنها قالت { يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله
تعالى {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى
بَعْضٍ (32)} النساء}
وكانت أم سلمة أول امرأة قدمت المدينة مهاجرة فنهى الله
عباده عن الأماني الباطلة وأمرهم أن يسألوه من فضله , إذ كانت الأماني تورث
أهلها الحسد
والبغي بغير الحق
فأمرهم ألا يشتهوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ,
إنكاراً على اعتراضهم
وقال تعالى
{ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا
اكْتَسَبْنَ (32)} النساء
قال ابن عباس المراد بذلك الميراث والاكتساب على هذا
القول بمعنى الإصابة للذكر مثل حظ الأنثيين فنهى الله عز وجل عن التمني على
هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد , لأن صنف النساء لا يملك تعديل هذه
الأنصبة بالسعي والعمل
فتمني النساء هنا من قبيل تمني الأشياء التي لا يمكن
اكتسابها أو تحقيقها بالمجهود لأن أنصبة المواريث مما شرعه الله
لأن الله تعالى أعلم بمصالحهم منهم فوضع القسمة بينهم على
التفاوت على ما علم من مصالحهم فجعل نصيب الرجل لمراعاة مسؤوليات الذكر في
الحياة فهو المسؤول عن معظم النفقات داخل الأسرة متى كان قادر فعليه المهر
وتأسيس البيت والإنفاق على الملبس والمأكل وغير ذلك والمرأة ليست عليها
إنفاق , ولا على نفسها إنفاق سواء وهي في بيت أبوها أو في بيت زوجها , أما
إن كان معها وتنفق من طيب خاطر
فهذا من طيبها
{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ
عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(32)}
النساء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
{سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة
انتظار الفرج}
فالمسلم متى وجد نعمة على أخيه ولا يستطيع أن يصل إليها
بكسبه فلينته عن التمني ويسأل الله أن يعطيه من فضله مثلها أو أفضل منها
وهذا الدليل دل بوضوح على الضابط الأول لحسد الغبطة
المأذون به شرعا ًوهو أن تكون النعمة مما يمكن اكتسابها بالسعي والعمل
فبعض الأمور كالمنزلة والجاه والمال وغير ذلك , قد تكون
ذريعة إلى التحاسد والتعادي , عند عدم رضا الإنسان بما قسم الله له, وتشهيه
لحصول ما لم يقدره الله له , دون أن
يطلبه من الله , أمر مذموم , فتمنى الإنسان ما لم يقدر عليه , هو
معارضة لحكمة القدر , ومحال تنفيذه , ومن يقع في مثل هذا , أي يتمنى ما لا
يستطيع أن يبلغه بكسبه , ويشتد هذا التمني لديه ويملأ ساحة فكره ونفسه ,
يتجه إلى التعويض فيحاول إبراز نفسه بالاستكبار أو بالافتخار على الناس
بالمال والجاه فيسلك مسالك الكذب والشر ولأذى ومعصية الله كما حدث من قارون
وإيذائه لموسى كما في القصة التالية
الدليل الثاني :
من المعروف إن قارون كان من قوم موسى كان ابن عمه وكان
ممن آمن به فبغى عليهم
فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره وتكبر
عليهم وظلمهم حين مَلّكَهُ فرعون على بني إسرائيل وحسدهم
روي أنه قال
لموسى عليه السلام لك الرسالة ولهارون الحبورة ( العلم والفصاحة ) وأنا في
غير شيء إلى متى أصبر قال موسى هذا صنع الله
الضابط الأول لا يتوفر هنا فتمني قارون ومنافسته لموسى
وأخوه هارون في مقام النبوة والتي هي نعمة من اصطفاء الله لبعض عباده
ومنحهم النبوة والتي ليست من النعم التي يصل إليها الإنسان بالكسب والعمل
فكان لا ينبغي لقارون تمنيها , وكان في تمنيه هذا اعتراض منه على القدر ,
لذا لما تمنى شيئاً لا يستطيع الوصول إليه بكسبه حمله ذلك على العوض ,
الحسد المذموم والطغيان واستخدام قوته المتمثلة في ماله وجاهه في إيذاء
موسى وهارون والمؤمنين وسعى في التخلص من موسى بأن دبر له قضية اتهام
بالزنا ظناً منه أنه لو أثبتها على موسى رُجم بها ويكون قد تخلص منه ويأخذ
هو مكانة موسى وهذا أشد أنواع الحسد إذ يسعى في زوال النعمة من على غيره
بمحاولة قتله
قارون آتاه الله من الكنوز من الأموال المدخرة ما إن
مفاتيح خزائنه لتضعف العصبة أي الجماعة الكثيرة من الرجال الأشداء من حمل
المفاتيح , فكيف بالخزن , لكن هذا المال أطغاه فلم يكن غِناه نعمة بل كان
نقمة عليه لما طغى به على موسى والمؤمنين وكان سبباً في هلاكه وشقائه
الأبدي
قال بنو إسرائيل لقارون لا تفرح الفرح بالدنيا مذموم
مطلقاً لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بأن ما
فيها من اللذة مفارقة لا محالة , يوجب الترح , وقيل له ابتغ فيما آتاك الله
من الغنى الدار الآخرة , بصرف
المال فيما يوجبها لك , فإن المقصود منه أن يكون وصلة إليها , ولا تترك
نصيبك من الدنيا وهو أن تُحَصِل بها أخرتك , وتأخذ منها ما يكفيك , وأحسن
إلى عباد الله كما أحسن الله إليك فيما أنعم الله عليك وأحسن بالشكر
والطاعة كما أحسن إليك بالإنعام , ولا تبغ الفساد في الأرض , إن الله لا
يحب المفسدين لسوء أفعالهم
قال قارون إنما أوتيته على علم عندي فُضلت به على الناس
واستوجبت به التفوق عليهم بالجاه والمال وعلم التجارة وسائر المكاسب والعلم
بكنوز يوسف , أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو
أشد منه قوة وأكثر جمعا
وأنكر الله عليه
ووبخه على اغتراره بقوته وكثرة ماله لأنه يعلم من التوراة وسمع من حفاظ
التواريخ بهلاك من قبله من الطغاة
وهذا من الله تهديد لقارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا
أقوى منه وأغنى فالله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم مُعاقبهم عليها لا محالة
فخرج على قومه في زينته وخيلائه وفخره يتعاظم بما لديه من غنىً كثير
كما قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب ومعه
حشمه على أربعة آلاف دابة بيضاء وهم على زيه عليهم ثياب حمر فرآه بنو
إسرائيل في موكبه الذي يحسده عليه أهل الدنيا وطلابها ولا يحسده عليه
العقلاء المؤمنين طلاب الآخرة
قال الذين يريدون الحياة الدنيا , على ما هو عادة الناس
من الرغبة , يا ليت لنا مثل ما أُوتي قارون , تمنوا مثله لا عينه ,حذرا عن
الحسد , إنه لذو حظ عظيم من الدنيا , وقال الذين أوتوا العلم
بأحوال الآخرة للمتمنين , ويلكم ثواب الله في الآخرة خير لمن آمن
وعمل صالحا مما أوتي قارون ,بل من الدنيا وما فيها , ولا يلقاها أي المثوبة
والجنة ,إلا الصابرون على الطاعات وعن المعاصي
فخُسف به وبداره
الأرض روي أنه كان يؤذي موسى عليه السلام
كل وقت وموسى يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة فصالحه عن
كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره فعمد إلى أن يفضح موسى بين بني إسرائيل
ليرفضوه فأعطى بغية أموال كثيرة لترميه بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى
خطيبا فقال من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه
فقال قارون ولو كنت أنت قال ولو كنت قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت
بفلانة فأحضرت فناشدها موسى عليه السلام أن تصدق فقالت جعل لي قارون جعلا
على أن أرميك بنفسي فخر موسى شاكيا منه إلى ربه فأوحى إليه أن مر الأرض بما
شئت فقال يا أرض خذيه إلى ركبتيه ثم قال خذيه إلى وسطه ثم قال خذيه فأخذته
إلى عنقه ثم قال خذيه فخسفت به
ثم قال بنو إسرائيل إنما فعله ليرثه فدعا الله تعالى حتى
خسف بداره وأمواله فما كان له من فئة أعوان ينصرونه من دون الله , فيدفعون
عنه عذابه , وما كان من المنتصرين الممتنعين منه , وأصبح طلاب الدنيا الذين
تمنوا منزلته بالأمس , منذ زمان قريب , يقولون الحمد لله أن منّ الله علينا
فلم يعطنا ما تمنينا , وإلا لخسف بنا كما خسف بقارون
وعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده , ويقدر
بمقتضى مشيئته , لا لكرامة تقتضي البسط , ولا لهوان يوجب القبض مع
أن الذين حسدوه من قبل قد كان حسدهم من باب حسد الغبطة إذ تمنوا أن يكون
لهم مثل ما أتي قارون ولكن النعمة التي أوتيها قارون لم تكن
نعمة مقرونة من قبله بما ينفع في أخرته ويكسبه مرضاة ربه
وإذ يقص الله علينا هذه القصة دلنا على أن النعمة التي لا
تنفع الإنسان في أخرته ولا تكسبه مرضاة ربه هي نقمة ووبال على صاحبها فهي
ليست من النعم التي يحسد الإنسان عليها وكذا فهمنا الضابط الثاني لحسد
الغبطة المأذون به شرعاً وهو أن تكون النعمة مما ينفع الإنسان في آخرته
ويكسبه مرضاة ربه
وهذه القصة أخبرنا بها الله تعالى فقال :
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى
عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76)وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ
اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا
وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي
الْأَرْض ِوَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77)قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ
القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا
يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ(78)فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي
زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ
لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ
لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الصَّابِرُونَ(80)فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ
مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ
المُنْتَصِرِينَ(81)وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ
يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا
وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا
فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)} القصص
ومن هذه القصة يتضح لنا خطورة المنافسة إذا لم يتوفر فيها
الضابطين وأن المنافسة ينبغي أن تكون في النعم التي يمكن الوصول لها بالعمل
والكسب
بل إنه مع توافر الضابطين في النعمة التي يمكن للإنسان
بالمنافسة الحصول على مثلها ومع ذلك يترك التنافس عليها ولا تطلع نفسه
أصلاً إلى ما أنعم الله به على غيره لكان هذا أسلم صدراً كما كان أبو بكر
وقدوته نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه ينافس أبا بكر رضى الله
عنه الإنفاق وأبو بكر خال من ذلك رضى الله عنهما
تشبيه عمر بموسى وأبو بكر بنبينا في المنافسة والخلو منها
{عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم اسبق أبا بكر إن
سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت
لأهلك قلت مثله واتى أبو بكر رضى الله عنه بكل ما عنده فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا
أسابقك إلي شئ أبدا}
فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة , لكن حال
الصديق رضى الله عنه أفضل منه , أنه خال من المنافسة مطلقاً , لا ينظر إلي
حال غيره
وكذلك موسى صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج حصل له
منافسة وغبطة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى لما تجاوزه النبي صلى الله
عليه وسلم { فقيل ما أبكاك قال يا رب هذا الغلام الذي بعث بعدي يدخل الجنة
من أمته أفضل مما يدخل من أمتي}
وعمر رضي الله عنه كان مشبها بموسى ونبينا حاله أفضل من
حال موسى فانه لم يكن عنده شيء من ذلك
وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه كانوا
سالمين من جميع هذه الأمور فكانوا أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة وإن كان
ذلك مباحاً