القسم السابع

الذين يصرفوا المال تزكية للنفس وابتغاء وجه الله

الإنسان الذي يقصد بإنفاقه تزكية نفسه ويقصد وجه الله تعالى فهو في أعلى منازل التقوى قال تعالى { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 17 - 20]

الإنسان الذي وصفه الله سبحانه هنا بالأتقى هو الإِنسان المبالغ في تقواه الذي يقصد بإنفاقه طهارة نفسه ووجه الله

فالإنسان الذي يريد أن يتحلى بصفة صاحب أعلى منازل التقوى وهي الأتقى عليه أن يحقق الآتي

1- أن يقصد بعطائه تزكية نفسه وماله

الإنسان الشديد التقوى هو الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى لأنه يطلب من وراء إعطائه المال لغيره تزكية ماله، وتطهير نفسه أي أن يكون عند ربه زاكيا ناميا، خاليا من شبهة الرياء والتفاخر، وأملا في أن يتطهر به من الذنوب

2- لا يقصد بعطائه مجازاة الغير

والذي يريد أن يبلغ الكمال في تقواه لا ينتظر من إنفاقه أن يجزى بنعمة ممن أنفق عليه ويقتاد في ذلك بأبي بكر الصديق رضي الله عنه في إنفاقه في وجوه الخير فقد كان يعتق العجائز من النساء إذا أسلمن ، ويشترى الضعفة من العبيد فيعتقهم ، فقال له أبوه يا بنى أراك تعتق أناسا ضعفاء ، فلو أنك تعتق رجالا جلداء أي أشداء يقومون معك ويدفعون عنك

فقال أبو بكر أي أبت إنما أريد ما عند الله ، فنزلت بسببه هذه الآيات

3- أن يقصد بعطائه وجه الله

الإنسان عليه أن يكون عطائه ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى ليبلغ أسمى درجات الإِخلاص والنقاء

فالإنسان يكون من المتقين بعطائه أما أن يقصد بعطائه تزكية نفسه ووجه الله بعطائه فإنه يتميز بصفة الأتقى

فعليه أن يفعل ما يريد فعله من أجل شيء واحد ، وهو طلب رضا الله تعالى والظفر بثوابه وطمعًا في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنة

وقفات

وقفات مع الشخصيات أصحاب هذه الصفات التقية

الشخصيات التقية تتوقف في تقواه على ترك التوسع في المباحات وتتفاوت في تقواه بحسب حال المريد في تحقيق التقوى على النحو التالي

وقفات لترك التوسعات في المباحات لمحقق هذه الصفات

الإنسان الذي حقق الأمور التي يتصف صاحبها بالتقوى في أي قسم من أقسام المتقين فهو من المتقين عندما يجعل حجاباً بينه وبين الحرام

أي يحذر من التوسع في المباح حذرا أن يجره إلى الانغماس في الحرام قال صلى الله عليه وسلم { لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس } ([1])

فيترك ما يريبه إلى ما لا يريبه لأن الاشتغال بكثرة المباح والانهماك فيه يجر إلى الوقوع في العصيان لشره النفس وطغيانها وتمرد الهوى وطغيانه

وهذا يجعل المُتَّقي أشدُّ محاسبةً لنفسه

وقفات مع الفروقات بين هذه الصفات

صفات المتقين في الأقسام السابقة تفاوتت بحسب ما تميزوا به في جمع صفات أخرى على صفاتهم فمنهم

 1- صنف حملوا مع تميزهم بالتحلي بصفة المتقين صفة الإحسان فهؤلاء متقين محسنين وهم المنفقين الكاظمين الغيظ العافين عن الناس والذين إذا أذنبوا تابوا والذين يقولون الحق ويعملون به والمنقادون المهجعون المستغفرون المعطون المحتاجون

2- صنف وصفوا مع تميزهم بالتحلي بصفة المتقين بأنهم صدقوا وذلك لتحقيقهم البر في تقواهم فهؤلاء متقين صادقين وهم الذين يحققوا البر في العقيدة والخَلق والعمل

3- صنف تميزوا بالتحلي بصفة المتقين وإن جمعوا معه صدق اللسان كانوا أفضل الناس وهم المتقون أصاحب القلوب النقية

4- صنف تميزوا بالتحلي بأعلى منزلة يتصف بها أصحابه المتقين وهي صفة الأتقى ويحصل على هذه الصفة الأتقياء الذين يصرفوا المال تزكية للنفس وابتغاء وجه الله

 وقفات مع مريد تحقيق هذه الصفات

الإنسان الذي يريد أن يكون من المتقين الذين يحبهم الله عليه أن يجتهد في تحصيل ما يستطيع أن يحصله من الأمور التي جاءت في قسم واحد من الأقسام السابقة على قدر طاقته وجهده قال تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16]

فالله تعالى يأمر بتقواه التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقيد ذلك بالاستطاعة والقدرة فكل ما عجز عنه العبد، يسقط عنه، وإذا قدر على بعض الأمور، وعجز عن بعضها، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم }

ومن قصد بعمله وطاعته نيل محبة الله فَليَبشِر قال صلى الله عليه وسلم { سددوا وقاربوا وأبشروا } ف{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) } [التوبة: 4، 5] وهو وليهم {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (34) } [الأنفال]

وهذا التوضيح لبيان من هو المحقق للتقوى لكن نمط المنهج في هذه الرسالة هو السعي للجمع بين أكثر الفضائل التي تبلغ صاحبها محبة الله إن استطاع ذلك لقوله تعالى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة: 197]

وبذلك يستطيع كل إنسان أن يجمع بين أمور كثيرة من كل الأقسام السابقة التي تبلغه غايته في نيل محبة الله له