الخمر من معوقات الفلاح
يا أيها الناس افعلوا ما أمركم الله به، واجتنبوا ما
نهاكم عنه, لتكونوا من المفلحين ، وهم الفائزون بالحياة المطمئنة في الدنيا
والنعيم الخالد في الآخرة
لذا موضوعنا الذي نتحدث عنه معوقات تحصيل الفلاح
لاجتنابها كما أمرنا ربنا في هذه الآية
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) المائدة
الخمر
الخمر ما يخمر العقل ويستره ، ويمنعه من التقدير السليم
فالخمر مأخوذة من خمر ، إذا ستر ، ومن خمار المرأة لأنه
يستر وجهها . وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره ومنه خمروا آنيتكم أي غطوها .
وسميت الخمر خمراً ، لأنها تركت حتى أدركت يقال قد اختمر
العجين ، أي بلغ إدراكه
وسميت الخمر خمراً ، لأنها تخالط العقل . من المخامرة وهي
المخالطة
فالمعاني الثلاثة متقاربة ، فالخمر تركت حتى أدركت ، ثم
خالطت العقل ، ثم خمرته
الخمر تخمر العقل ومن طبعه الطاعة والانقياد والتواضع
لربه وضده الهوى ومن طبعه التمرد والمخالفة والآباء والاستكبار عن عبادة
ربه كالشيطان فإذا خمر الخمر العقل صار مغلوبا لا يهتدي إلى الحق وطريقه ثم
يغلبه ظلمة الهوى فتكون النفس أمارة بالسوء وتستمد من الهوى فتتبع بالهوى
جميع شهواتها النفسانية ومستلذاتها فيظفر بها الشيطان فيوقعها في مهالك
المخالفات كلها ولهذا قال عليه السلام « الخمر أم الخبائث » لان هذه
الخبائث كلها تولدت منها
الميسر قمار ولهو
ميسر القمار يشمل جميع المغالبات التي فيها عوض من
الجانبين كالمراهنة وغير ذلك
مما يقامرون به
فالميسر مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجيء
للكاسب من غير جهد
فميسر القمار هو كل كسب يجيء المال فيه بالمخاطرة وبطريق
الحظ المبني على المصادفة
فكل لعبة فيها مكسب وخسارة بين اثنان أو أكثر وجعل عليها
رهان من مال سمي ميسر قمار
فاللعب بالنرد على مال يسمى قماراً ، واللعب بالشطرنج على
مال يسمى قماراً
وتحريم الميسر تحريم لذات الفعل , فالعمل في ذاته حرام ،
والكسب عن طريقه حرام
ومن صور الميسر قديماً الضرب بالقداح على الأموال والثمار
والأولاد والزوجة
ومن صور الميسر في وقتنا المعاصر
طاولات القمار المعروفة بالطاولات المستديرة التي تنصب في
الكازينوهات وفي كثير من الفنادق الفخمة
ألعاب المكنات مثل البلاك جاك ومكنات البوكر وغيرها
اليانصيب تلك السحوبات اللوتارية وهو أن يشتري تذكرة ثم
قد يحالفه الحظ فيربح ربحاً كبيراً
الألعاب التي يدفع إيجارها الخاسر ولا يدفع فيها الكاسب
ولو كانت من الألعاب المباحة سواء البلياردو أو تنس الطاولة
وكذا الألعاب التي يدفع الخاسر ثمن المشروبات التي يشربها
اللاعبون أو المشاهدون ولا يدفعها الكاسب كلعبة ورق الكوتشينة الجوكر
الدمينو
وميسر اللهو كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من
الميسر
أما لعبة الشطرنج وكذا النرد وهو المكعب المعروف بالزهر
أو النردشير الذي على كل وجهة من وجهاته نقط والذي يلعب به الطاولة والسلم
والثعبان والآن يزينوا به السيارات والحجرات فالعب بهما بدون مال فهو
محرماً للنصوص التي جاءت فيها
كما في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم {من لعب
بالنَّرْدَشير فكأنما صَبَغ يده في لحم خنزير ودَمه}
وقال صلى الله عليه وسلم {من لعب بالنرد فقد عصى الله
ورسوله}
وقال صلى الله عليه وسلم مثل الذي يلعب بالنرد، ثم يقوم
فيصلي، مثل الذي يتوضأ بالقَيْح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي}
ولما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الشَطْرَنج
أنه من الميسر
وقال عبد الله بن عمر عن الشطرنج أنه شرّ من النرد ونص
على تحريمه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وكرهه الشافعي، رحمهم الله تعالى
جميعا
الأنصاب
الأنصاب تطلق على الحجارة التي كانت تخصص للذبح عليها
تقرباً للأصنام وللطواف على اختلاف عقائد القبائل
وتطلق على الأصنام والأنداد ونحوها لأنها تُنصب لتعُبد من
دون الله وكانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية والتي تُصير العبد مشركا
بالله
وفي حكمها الطواف حول القبور والذبح وتقديم الفتة وغيرها
من المأكولات عندها تقرباً لأصحابها
الأزلام
الأزلام جمع زلم والزلم السهم الذي يقترعون به
وتطلق الأزلام على الأقداح وهي عبارة عن أعواد من الخشب
زلمت أي سويت بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية
والاستقسام هو طلب معرفة ما قسم للإِنسان من خير أو شر
فيطلبون بهذه الأزلام علم ما قسم لهم من الخير والشر قبل
الإقدام على الشيء أو الإحجام عنه
فكانوا إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح وهي ثلاثة أزلام
مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الثاني نهاني ربي ، والثالث غُفل ليس
عليه كتابة وكانوا يطلبون بها علم ما قسم لهم من الخير والشر قبل الإقدام
على الشيء أو الإحجام عنه
فكانت العرب في الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً أو تجارة
أو زواجاً أو اختلفوا في نسب ، أو أمر قتيل أو تحمُّل دية مقتول أو غير ذلك
من الأمور
حيث يجيء من أراد الاستقسام إلى هُبَل ، أعظم صنم في
الكعبة لقريش ، وقدّم مائة درهم إلى السادن ، فيخرج له القداح ويسحب واحداً
منها من الكيس التي هي فيه. فإذا خرج أمرني ربي ، أقدموا على لحاجتهم ، وإن
خرج نهاني ربي أمسكوا تجنبوا عنه فلم يفعلوا ولم يمضوا في شأنهم ، وإن خرج
الغفل الذي ليس عليه كتابة أعادوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي ليعملوا
به
ومن الأزلام الزجر بالطير وأخذ الفأل منها وفتح الكتب
وقراءة الفنجال والضرب بالودع والضرب بالحصى والعرافة وحظك اليوم والأبراج
ونحوه مما يصنعه الناس اليوم
وقد نهى الله تعالى الناس عن طلب معرفة ما قسم لهم
بالاستقسام بالأزلام
لأنه خوض في علم الغيب الذي استأثر الله به ومعنى استئثار
الله تعالى بعلم الغيب انه لا يعلم إلا منه ، ولهذا صار استعلام الخير
والشر من المنجمين والكهنة ممنوعاًً وافتراء على الله تعالى وهو حراما فقال
تعالى{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ (3) }المائدة
لأن هذا الفعل ذنب عظيم وخروج عن طاعة الرحمن إلى معصيته
وطاعة الشيطان
فحرم الله عليهم هذه الصور من الأزلام وما يشبهه، وعوضهم
عنها بالاستخارة لربهم في جميع أمورهم
فحرم الإسلام هذه الأمور لأنها تشتمل على مفاسد ،
والإسلام يريد أن يبني مجتمعاً نقيا طاهرا
رجس
{ رِجْسٌ } أي قذر تأباه النفوس الكريمة والعقول السليمة
تكرهه وتنفر منه لقذارته ونجاسته .
الرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل
ويقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس
الرجس هو العمل الذي يكون قوي الدرجة كامل الرتبة في
القبح
الرجس كل مكروه ذميم
الرجس الشر
الرجس السخط
الرجز العذاب
والرجس الخبث المستقذر والمكروه من الأمور الظاهرة ،
ويطلق على المذمّات الباطنة كما في قوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ (125) } [
التوبة : 125 ]
، وقوله { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } [ الأحزاب ]
والمراد به هنا الخبيث في النفوس واعتبارِ الشريعة
وسميت هذه المعاصي المذكورة هنا رجسا لوجوب اجتنابها كما
يجب اجتناب الشيء المستقذر
وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم
الخنزير بأنها رجس ، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام .
من عمل الشيطان
{ من عمل الشيطان } لأنه ناجم عن تزيينه وتسويله
وهو الداعي إليه والمرغب فيه والمزين له في قلوب فاعليه
إذ هو خبيث والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث
وإضافة الرجس لعمل الشيطان الذي هو أعدى الأعداء للإنسان
مبالغة في كمال قبح ذلك العمل
والشيطان عمله وتعاطاه هو بنفسه أول مرة فاقتدى به بنو
آدم وتعاطوه لأجله من تزيينه وتسويله
وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنّه يعمل عمل الشيطان ، فهو
شيطان ، وذلك ممّا تأباه النفوس
لأن هذا الرجس أخبث شيء من إعمال الشيطان التي يغوى بها
العباد ويضلهم عن صراط الحق وطريق الرشاد
ومن المعلوم أن العدو يحذر منه، وتحذر مصايده وأعماله،
خصوصا الأعمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه، فإنها فيها هلاكه، فالحزم كل
الحزم البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منها، والخوف من الوقوع فيها
فاجتنبوه
{ فاجتنبوه } أي الرجس الجامع لتلك الأمور الأربعة وهي
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إذا كان تعاطيها قذر ينأى عنه العقلاء
فعبر بقوله فاجتنبوه للمبالغة في الأمر بترك هذه الرذائل
فكأنه سبحانه يقول لا آمركم فقط بترك الرذائل ، بل آمركم
أيضاً بأن تكونوا أنتم في جانب وهذه المنكرات في جانب آخر
فليس اجتناب المذكورات هو اجتناب التلبّس بها فقط بترك
شرب الخمر وترك التقامر بالميسر ، وترك الذبح على الأنصاب وتقديم الفتة عند
القبور وترك الطواف حولها والتقرب لأصحابها , وترك استشارة الأزلام فحسب
ولكن كونوا في جانب وهذه الأمور في جانب آخر
فالأمر هنا منصب على الترك وعلى كل ما يؤدي إلى اقتراف
هذه المنكرات كمخالطة المرتكبين لها وغشيان مجالسها
واجتنبوا الشيطان ولا تقبلوا وساوسه واتركوا هذه الاعمال
الخبيثة
فالله سبحانه وتعالى بعد أن نهى عن تحريم الحلال من
الطيبات في الآيات التي سبقت آيات الخمر ، وقد أمر بأكل الطيّب من الرزق ،
تناول توضيح أمر الخمر والميسر والأزلام . وكانت هذه من الطيبات في
الجاهلية ، وكان العرب يشربون الخمر بإسراف ، بل يجعلونها من المفاخر التي
يتسابقون في مجالسها . وكان يصاحب مجلسَ الشراب نحرُ الذبائح ، واتخاذ
الشواء منها للشاربين ، والمقامرة عليها بالأزلام . كذلك كانوا يذبحون
قرابينهم عند الانصباب , فنهى الله تعالى عن هذه المفاسد كلها نهياً قاطعاً
، بعد أن مهد لتحريم الخمر مرتين من قبل هذه الآية
والنداء بقوله : { يا أيها الذين آمَنُواْ } يا أيها
الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، نداء عام لجميع المؤمنين ، وقد
ناداهم سبحانه بهذه الصيغة لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يستجيبوا
لما نودوا من أجله ، وهو اجتناب تلك الرذائل اجتناباً تاماً.
لعلكم تفلحون
لعلكم بسبب هذا الاجتناب والترك لذلك الرجس تنالون الفلاح
والظفر في دنياكم وآخرتكم
أمر باجتناب هذه الأمور وجعل الاجتناب سبباً يرجى منه
الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة
فيا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله إن الخمر التي
يشربونها ، والميسر الذي تقامرون به ، والأصنام التي يذبحون عندها قرابينهم
، والأزلام التي يستقسمون بها ، كل ذلك رِجسٌ وقذِر وإثمٌ مِن تزيين وإغواء
الشيطان لكم ، وقد كرهها الله لكم ولذلك حرّمها ، فاجتنبوها نهائيا ، رجاء
أن تفلحوا وتفوزوا برضا الله فابتعدوا عن هذه الآثام، لعلكم تفوزون بالجنة
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الفلاح لا يتم إلا بترك
ما حرم الله، خصوصا هذه الفواحش المذكورة
فأنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها، فإن الفلاح هو
الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور مانعة من الفلاح
ومعوقة له.
اللهم
اصرفنا واصرف عنا الخمور والقمار
اللهم أحفظ أبنائنا وأبناء المسلمين من هذه الرذائل