الله تعالى يحض المؤمنين على ما يوصلهم للفلاح وهو الفوز
والسعادة والنجاح، وبين لهم أن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر والمصابرة
والرباط والتقوى
فالصبر وهو حال الصابر في نفسه والمصابرة وهي حالة في
الصبر مع خصمه والمرابطة وهي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة
فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من
غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف
عليها
الانتكاسة سببها ضعف المصابرة في الحفاظ على التعافي أمام
مصابرة أهل السوء في نشر فسادهم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) } [آل
عمران: 200]
هذه وصاية جامعة للمتعافين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى
دوام الاستعداد للعدوّ ( الشيطان وسلاحه الإدمان ) كي لا يثبّطهم ما حصل
لهم من زلة أوقعتهم في انتكاسة بالعزم على حبس النفس عن أهوائها وشهواتها
وترويضها على تحمل المكره وتعويدها على أداء الطاعات فهذ هو الصبر الذي
أمرنا به
وأن يكون المؤمن أشد صبراً من عدوه فيكون محقق للمصابرة
التي هي المغالبة بالصبر
فالأمر بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال ، ثم
الأمر بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر ( المصر على الإضرار به سواء
شيطان جن أو شيطان إنس وهو صديق السوء ) وهذا أشدّ الصبر ثباتاً في النفس ،
ذلك أنّ الصبر في وجه صابرٍ آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة
قِرين له في الصبر قد يساويه أو يفوقه ، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على
صبره حتّى يملّ قرينه فإنّه لا يجتني من صبره شيئاً ، لأنّ نتيجة الصبر
تكون لأطول الصابرين صبراً مثل هذا المتعافي الذي يخبر أنه ظل أكثر من أربع
سنوات متعافي وكل صلاة يتعرض له مروج يلقي عليه السلام وهو ذاهب للصلاة
وذات مرة وقف له ظناً منه أنه يدعيه للصلاة فأخرج له هذا المروج البودرة
وأعطاها له في يده فعاد هذا المتعافي لبيته ليتناولها فرجع على عقبه
منتكساً
فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب ولذا كانت مصابرة هذا المروج
الذي لم يمل طيلة أربع سنوات وهو يعترضه كل صلاة مصابراً على إيقاعه في
التعاطي حتى ظفر به
فلتكن أنت أيه المتعافي أشد صبراً ومصابرة ورباطاً في
الحفاظ على تعافيك
وكما أن المرابطة هي القيام على الثغور الإسلامية
لحمياتها من الأعداء وهي استعداد ودفاع وحماية لديار الإسلام من أن يفجأهم
العدوّ ، ولذا أمر الله به المسلمين ليكونوا دائماً على حذر من عدوّهم
تنبيهاً لهم على ما يكيد به عدوهم من مفاجأتهم على غِرّة
فالمرء المتعافي التائب عليه بعد توبته أن يكون يقظاً
دائماً حتى لا يقع فريسة التعرض المفاجئ لأصدقاء السوء فعليه أن يكون
دائماً مرابطاً متهيئً لصد عدوه ودفعه أشبه بمقاتل العدو لأن الله تعالى
كمّا أمر المؤمنين بمجاهدة العدو أمرهم أن يحموا إنجازاتهم في قهر عدوهم
بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظاً من عدوّهم مرابطين له حتى يستطيعوا صدهم إذا
هبوا بالهجوم المفاجئ
وكما أن الرباط هو ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات
التي يستطيع العدوّ الوصول منها إليهم مثل الشعاب بين الجبال
والمرابطة هي لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه،
ومراقبة الأعداء ومنعهم من الوصول إلى مقاصدهم
فأنت أيضاً أيها المتعافي تعلم أن عدوك غايته من غزوك صدك
عن الصلاة لتخلد معه في النار فرابط أنت له بانتظارك الصلاة بعد الفراغ من
التي قبلها ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية قال النبي
صلى الله عليه وسلم { انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط
، فذلكم الرباط } فهذا هو الجهاد الأكبر كما هو مشهور على الألسنة رجعنا من
الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
وحديث جابر الذي فيه مقال {مرحبا ً بكم قدمتم خير مقدم
وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة العبد هواه } رجعوا من
أعظم الأعمال وهو جهاد الكفار إلى جهاد أكبر وهو هوى النفس والشيطان وهو
جهاد القلب
{ المجاهد من جاهد نفسه }
قال صلى الله عليه وسلم {المجاهد من جاهد نفسه في الله
تعالى }
أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله
وأعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنّها جماع الخيرات وبها
يرجى الفلاح
فاتقوا الله بأن تصونوا أنفسكم عن محارمه وعن مخالفة أمره
، ورجاء أن يكتب لكم الفوز بالنصر في الدنيا ، والثواب الحسن في الآخرة .
هذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء ،
والفوز بنعيم الآخرة
حض للمؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلاح وهو الفوز والسعادة
والنجاح، وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر، الذي هو حبس النفس على ما
تكرهه، من ترك المعاصي، ومن الصبر على المصائب، وعلى الأوامر الثقيلة على
النفوس، ولذا أمروا بالصبر على جميع ذلك.
وبالمصابرة أي الملازمة والاستمرار على ذلك، على الدوام،
ومقاومة الأعداء في جميع الأحوال
والانسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا
يمكنه الاتيان بالصبر والمصابرة
والمرابطة وهي لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه،
وأن يراقبوا أعداءهم، ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم
وعليهم بتقوى الله التي يدفع بها القوى الداعية إلى
القبائح والمنكرات
لعلهم يفلحون يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي
وينجون من المكروه كذلك
فلا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة
المذكورات، فلم يفلح من أفلح إلا بها، ولم يفت أحدا الفلاح إلا بالإخلال
بها أو ببعضها
والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا به