قال تعالى { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) }
{ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ }
يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النَّبِيِّ محمد صلى الله عليه وسلم
{ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ }
فغفر لهم الزلات، ووفر لهم الحسنات، ورقاهم إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات، ولهذا قال:
{ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ }
الذين خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة "تبوك ولم يتخلفوا عنه ولم يخلوا بأمر من أوامره { في ساعة العسرة } وهو الزمان الذي وقع فيه غزوة تبوك وكانت في حر شديد، وضيق من الزاد والركوب، وكثرة عدو، مما يدعو إلى التخلف فانه قد إصابتهم فيها مشقة عظيمة من شده الحر وقلة المركب حتى كانت العشرة من الرجال يعتقبون بعيرا واحداً يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك ومن قلة الزاد حتى قيل أن الرجلين كانا يقتسمان تمرة وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء المتغير من قلة الماء فقد كان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلا يأكلها حتى يجد طعمها ، ثم يشرب عليها جرعة من الماء فاستعانوا باللّه تعالى
والمعنى : لقد تقبل الله تعالى توبة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار ، الذين اتبعوه وأطاعوه وأخلصوا في ساعة العسرة
وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، كما سمي من جاهد فيها بجيش العسرة وجهزهم عثمان وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم
والمقصود وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه السلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم لهم
وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها في شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وفقر في الزاد والماء والراحلة .
ومضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة وغيرهما على الجزية ونحوهما ، وانصرف
ومع ذلك فقد كانوا محتاجين إلى التوبة
{ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ }
بيان لتناهى الشدة ، وبلوغها الغاية القصوى . حتى كاد يميل قلوب طائفة منهم عن الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدائد إصابتهم في تلك الغزوة لكنهم صبروا واحتسبوا وندموا على ما ظهر على قلوبهم فتاب الله عليهم
أي : تاب سبحانه على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب وكادت تنقلب قلوبهم، ويميلوا إلى الدعة والسكون، ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم.
وفى ذكر { فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار ، مضوا معه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد في قوة إيمانهم وعزيمتهم وصدق يقينهم ، وشدة إخلاصهم
والمرد قبول توبتهم ، وغفران ذنوبهم ، والتجاوز عن زلاتهم التي حدثت منهم في تلك الغزوة قال ابن عباس : كانت التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم لأجل أنه أذن للمنافقين في القعود عن الخروج ، لقوله سبحانه قبل ذلك : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ . . . }
وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه أي : إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك
وفي الآية الكريمة بيان فضل الله تعالى على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت في هذه الغزوة وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ، فليس معنى الزلة أنهم زلوا عن الحق إلى الباطل ولكن معناها أنهم زلوا عن الأفضل إلى الفاضل وإنهم يعاتبون به لجلال قدرهم ومكانتهم من الله تعالى ، فهي لا تنقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من منزلة أصحابه الصادقين في إيمانهم
وقوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ }
أي: تأكيد منه سبحانه وتعالى على قبول توبتهم ولعظيم فضله عليهم ولطفه بهم .
أى : ثم تاب عليهم سبحانه بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه ، وصبروا على تلك الشدائد والمحن
وذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم
فتوبته سبحانه عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ وتلك سنة الحق سبحانه مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك ، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم
{ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }
ومن رأفته ورحمته أن مَنَّ عليهم بالتوبة، وقبلها منهم وثبتهم عليها.
والرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال النفع .
{ و } كذلك لقد تاب الله
{ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) }
{ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا }
وكما تقبل الله تعالى بفضله وإحسانه توبة النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوا رسولهم صلى الله عليه وسلم في ساعة العسرة . فقد تقبل توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن الاشتراك في غزوة تبوك كسلا وحبا للراحة ، الذين أخر أمرهم ولم يقطع في شأنهم بشيء إلى إن نزل فيهم الوحي أي الذين سبق أن أرجأ الله حكمه فيهم بقوله { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ . . }
والمقصود بهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع, وثلاثيتهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر . ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعترفوا بذنبهم وحزنوا . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم ، وأمرهم بأن يعتزلوا نساءهم
{ حَتَّى إِذَا } حزنوا حزنا عظيما
و { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ }
أي : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض على سعتها ورحبها ، بسبب إعراض الناس عنهم ، ومقاطعتهم لهم حتى عن المكالمة معهم ولو بالسلام ورده وكانوا يخافون إن يموتوا فلا يصلى النبي عليه السلام ولا المؤمنون على جنازتهم وهو مثل لشدة الحيرة كأنهم لا يستقر بهم قرار ولا تطمئن لهم دار لشدة تحيرهم ، وكثرة حزنهم ، واستسلامهم لحكم الله فيهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صار معرضاً عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوماً
{ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ }
ضاقت صدورهم بسبب الهم والغم الذي ملأها وامتلأت قلوبهم بالوحشة ومجانبة الأحباء ، ونظر الناس لهم بعين الإهانة بحيث لم يبق في النفس ما يسع شيء من الراحة والأنس والسرور فضاق عليهم الفضاء الواسع، والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منه، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج، بلغ من الشدة والمشقة ما لا يمكن التعبير عنه، وذلك لأنهم قدموا رضا اللّه ورضا رسوله على كل شيء
{ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ }
أي: تيقنوا وعرفوا بحالهم، أنه لا ينجي من الشدائد، ويلجأ إليه، إلا اللّه وحده لا شريك له، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين، وتعلقوا باللّه ربهم، وفروا منه إليه ، عندما أيقنوا أن لا ملاذ ولا خلاص من سخطه تعالى إلا إلى استغفاره فالفرار ليس إلا إليه على كل حال فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة.
{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ }
أي: أذن في توبتهم ووفقهم لها
فجاءهم فرج الله ، حيث قبل توبتهم ، وغفر خطأهم وعفا عنهم
{ لِيَتُوبُوا }
أي: لتقع منهم، فيتوب اللّه عليهم
أي : بعد هذا التأديب الشديد لهم ، تقبل سبحانه توبتهم ، ليتوبوا إليه توبة نصوحا ، لا تكاسل معها بعد ذلك عن طاعة الله وطاعة رسوله
فقد قبل توبتهم من التخلف ليتوبوا في المستقبل إذ صدرت منهم هفوة ولا يقنطوا من كرمه
{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ }
أي: كثير التوبة والعفو، والغفران عن الزلات والعصيان، وهذا محض الرحمة والكرم منه تعالى
فالله تعالى هو الكثير القبول لتوبة التائبين ، وهو الواسع الرحمة بعباده المحسنين . أي المبالغ في قبول التوبة لمن تاب وان عاد في اليوم مائة مرة
{ الرَّحِيمُ }
وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين، في جميع اللحظات، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية