القسم الثاني الخاص بالإنسان الذي ظلم نفسه بكفره وشركه
هذا القسم يستطيع الإنسان الواقع فيه إن يحسن لنفسه بترك ظلمه لنفسه لينجوا من الخلود في النار ويفوز بالجنة عندما يسلك سلوك الصالحين الأخيار الذين عرفوا الحقيقة بسماع القرآن كهؤلاء الذين كانوا على دين عيسى ابن مريم عليه السلام، لما رأوا المسلمين وسمعوا منهم ما أنزل الله من القرآن أسلموا ولم يَتَلَعْثَمُوا قال تعالى {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) } [المائدة]
هذه الآيات في وصف أقوام { إذا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ} محمد صلى الله عليه وسلم، أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له، وفاضت أعينهم بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه ، فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا { رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين يشهدون لله بالتوحيد ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به
إن هؤلاء عندما عاتبهم البعض على مسارعتهم في إيمانهم قالوا { وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } أي وما الذي يمنعنا من الإيمان بالله، وقد جاءنا الحق من ربنا، الذي لا يقبل الشك والريب، ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق طمعنا أن يدخلنا الله الجنة مع القوم الصالحين الذين صلحت أنفسهم بالعقيدة السليمة، وبالعبادات الصحيحة، فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان وعدم التخلف عنه.
قال الله تعالى: { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا } أثابهم بما تفوهوا به من الإيمان ونطقوا به من التصديق بالحق { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ }
هذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم. وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام، ويتبين له بطلان ما كانوا عليه، وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام
قال تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }[المائدة]
يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين، وإلى ولايتهم ومحبتهم، وأبعدهم من ذلك { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم، بغيا وحسدا وعنادا وكفرا
{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } وذكر تعالى لذلك أسباب منها :
1- أن منهم قسيسين ورهبان أي علماء متزهدين وعُبَّادًا والعلم مع الزهد والعبادة مما يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود، وشدة المشركين
2- أنهم لا يستكبرون أي ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر.
إن الذي يريد أن يحسن لنفسه بتوحيد الله الذي به الفوز بالجنة والنجاة من النار تجد فيه من صفات هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى الذين إذا سمعوا ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن تأثرت قلوبهم وخشعت نفوسهم وسالت الدموع من أعينهم بغزارة وكثرة من أجل ما عرفوه من الحق الذي بينه لهم القرآن الكريم بعد أن كانوا عنه غافلين
إن النصراني الذي يريد أن يحسن لنفسه بالإِيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد عليه أن يدخل نفسه مع هؤلاء أصحاب هذا الصنف الذين مدحهم الله بقوله تعالى { تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } دلالة على الرؤية البَصِرية التي هي أقوى أسباب العلم الحسي، إنها مبالغة في مدحهم، حيث يراهم الرائي وهم على تلك الصورة من رقة القلب وشدة التأثر عند سماع الحق فلقد كانوا يحسون أنهم في ظلام وضلال فلما سمعوا الحق أشرقت له نفوسهم ودخلوا في نوره وهدايته وأعينهم تتدفق بالدموع من شدة تأثرهم به
ولذا أجابهم الله إلى ما طلبوا ، بل أكبر مما طلبوا فقد كانوا يطمعون في أن يكونوا مع القوم الصالحين، وأن يكتبهم مع الشاهدين فأعطاهم سبحانه جنات تجري من تحتها الأنهار وسماهم محسنين والإِحسان أعلى درجات الإِيمان ، وأكرم أوصاف المتقين
هذا جزاء الذين سمعوا ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وقالوا ما قالوا مما يشهد بصفاء نفوسهم
والله تعالى يكافئ أمثال هؤلاء بسبب أقوالهم الطيبة الدالة على إيمانهم وإخلاصهم بجنات تجري من تحت بساتينها وأشجارها الأنهار خَالِدِينَ في تلك الجنات خلود لا موت معه جزاء المحسنين المؤمنين المخلصين في أقوالهم وأعمالهم
وبذلك نرى في الآيات الكريمة مدح أولئك الذين قالوا إنا نصارى لأنهم تأثروا بالقرآن عند سماعه فدخلوا في الدين الحق بسرعة ورغبة فأكرمهم الله غاية الإِكرام ، وهذا ينطبق على كل نصراني ينهج نهجهم ، ويسلك مسلكهم ، فيدخل في الدين الحق كما دخل هؤلاء المحسنون
وأنت أخي المحسن قارئ هذه الرسالة عليك في إحسانك بالأخرين أن تحسن بكل نصراني تتعامل معه سواء كان زميل دراسة أو عمل أو من جيرانك الطيبين أن تسعى بالحكمة لتصحيح مفاهيمه في التوحيد بإسماعه لكلام الله مبتدئاً بمثل هذه الآيات التي تمدحهم وتوضح لهم سبب مدحهم ليعرف أن الحق عندما يعرفه المنصفون يتأثرون به ويتبعونه
وتصابر معه حتى تسمعه كلام الله تعالى في عيسى عليه السلام سواء كانت دعوتك إليه بالكلام المباشر أو من خلال إعطائه مادة معاصرة مكتوبة أو مرئية مسموعة وإعطائه الفرصة للاطلاع عليها وأنت تدعوا الله له بالهداية وهو يرى فيك الإيمان والصلاح والمعاملة الحسنة بالآخرين
وتستحضر إن الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [الحديد] وفي كتابهم من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ولهذا قال تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم والرهبان العباد وقد تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف قال تعالى { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به
وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله عز وجل {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) } [آل عمران]
وهم الذين قال الله فيهم {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا (54) } [القصص]
وادع الله أيها المحسن لهذا الإنسان الذي تدعوه وتجتهد فيه أن يكون مثل الوَفْد الذين بعثهم النجاشي ملك الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته، فلما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أسلموا وبَكَوا وخَشَعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه
وعليك يا أخي أن توفر الأمان لهذا الإنسان الذي تدعوه لأنه سيتعرض لطغوط من ناسه وأنهم سيسيئون لك ولناسك عنده وسيوشون به عند من يظنون أنهم يمنعوه مما هو مقبل عليه كما فعل زعماء قريش مع المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة لينجوا بدينهم من أذى قريش لهم فأرسلت قريش وفداً إلى النجاشي ملك الحبشة وقابل هذا الوفد النجاشي وقدموا الهداية وأخذو يخبروه أنه نزل بأرضه أُناس من قومهم خرجوا عن دينهم ولهم في عيسى بن مريم كلام غير كلامكم فيه فأتى بهم النجاشي وقال ماذا تقولون في عيسى
فقرأ جعفر الطيار عليهم سورة مريم، قال النجاشي والله ما زاد على ما قاله الله في الإنجيل مثل هذا ، وما زال النجاشي وأصحابه الذين يسمعون كلام الله الذي يُتلى عليهم وهم يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة فطرد النجاشي هذا الوفد الذي أرسلته قريش ورد هداياهم عليهم وأعطى الأمان لهؤلاء المؤمنين المهاجرين بأن يعيشوا الحياة الكريمة في بلده
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} [الرعد: 18]
قال تعالى { إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين }
قال تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن]
ومع تشوق النفوس المحسنة إلى الجزاء الرباني على الإحسان يأتي تبشيرهم من أحسن المحسنين أكرم الأكرمين إذ يقول {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } أي للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة، وقاموا بما قدروا عليه منها وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي، ومن بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان
فهؤلاء الذين أحسنوا، لهم الحسنى وهي الجنة الكاملة في حسنها وزيادة وهي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا يحصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون وما كان لهم هذا إلا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) } [المائدة: 13]