المسلمين وتفاعلهم مع التحريم |
رجوع |
الناس يختلفون في التجاوب مع تلقي الأوامر وخاصة إذا كانت في أمور هم على خلافها فمنهم من يتجاوب من أول وهلة ومنهم من يحتاج توضيح ومنهم من يحتاج توضيح أكثر حتى يتأكد من وضوح الأمر عنده وكلهم في خير لأن المرء منهم متى اتضح له الأمر استجاب سواء من أول وهلة أو بعد تأخير , وهذا ما كان من حال المسلمين في تفاعلهم مع تحريم الخمر في مراحلها الثلاثة فكانوا خمس أصناف
1- أُناس تركوا الخمر من أول وهلة, بعد أن بين الله تعالى بأن الخمر فيها أثم كبير ونفع, فقد فهموا المقصود وعلموا أنه تحريم غير مباشر وقالوا لا حاجة لنا فيما فيه إثم
2- أُناس قالوا ما حرم علينا, إنما قال { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}, وظلوا يتعاطونها وقالوا نترك الإثم ونأخذ النفع حتى كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم
3- أُناس من القوم الذين قالوا نأخذ نفعها ونترك إثمها تركوها لما أمر الله في المرة الثانية ألا يقربن الصلاة سكران وقالوا صلاتنا أهم مما في الخمر
4- أناس من القوم الذين قالوا نأخذ نفعها ونترك إثمها قالوا نشربها بعد العشاء في غير أوقات الصلاة وكانوا قلة
5- باقي القوم الذين قالوا نأخذ نفعها ونترك إثمها وكانوا يشربونها في غير أوقات الصلاة تركوها لما أمروا باجتناب الخمر
فترك المجتمع الإسلامي كله الخمر التي حرم شربها عليهم تحريماً نهائياً وامتثلوا لأمر الله تعالى
يتضح مما سبق أن الناس تختلف أحوالها في التفاعل مع استقبالها لأوامر التكليف الرباني , والمسلم متى بلغ قلبه حكم تفاعل معه, وهذا هو الاستبصار بحقيقة الأمر, كما كان حال المسلمين في مراحل التحريم الثلاثة, ففي المرة الأولى من بلغ قلبه التحريم استجاب للحكم وانتهى, ومن يبلغ الحكم قلبه واحتاج توضيح, تفاعل في المرة الثانية عندما اتضح له الحكم وبلغ قلبه فاستجاب وانتهى, ومن الناس من لم يكفيه الوضوح الأول والثاني في بلوغ الحكم إلى قلبه واحتاج زيادة توضيح, فوضح له في المرة الثالثة فبلغ قلبه فاستجاب وانتهى ([28])
ومع اختلاف أحوال المسلمين في سرعة استقبالهم لأمر التحريم في المراحل الثلاثة لتحريم الخمر إلا أن كل من بلغ قلبه التحريم بترك الخمر تفاعل قلبه واستجاب لترك الخمر نهائياً وعلى الفور امتثالاً لأمر الله
وبذلك يتبين أن امتثال أمر الرحمن هو علاج الإدمان كما حدث من الصحابة عليهم الرضوان
ومن فضل الله وكرمه أنه لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الأمة, ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة, ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة, فكذلك تحريم الخمر كما تبين مما سبق أن تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل لأنهم كانوا مولعين بشربها, ولما صارت حراما عليهم قيل ما حرم الله شيئا أشد من الخمر([29])
وهذا التدريج كان من الله رأفةً بهم حيث كانوا يشربونها جيل عن جيل وليس التدريج من عندهم ولكن من الله الذي حرمها , والتدريج كان تمهيد للمجتمع بالتحريم ولم يكن القصد من التدريج أن الشارب لها يترك شربها على مراحل ولذلك كل من فهم التحريم في المراحل الثلاثة توقف نهائياً
وبعد ثبوت الأحكام ليس للمتجرىء على الحرام بشربها أن يتركها بالتدريج, بل عليه أن يعلم أن الله غفور رحيم وقد شرع له التوبة التي بها تجب معصيته, ولهذه التوبة شروط منها الإقلاع والعزم على ألا يعود إلي المعصية مرة أخرى, وفي التدريج لم يتحقق الإقلاع وفيه مخالفة للعزم على تركها وهو يعود إليها
وفي أحوال الناس في توافق قلوبهم مع التحريم توضيح لمسألة عدم استبصار المتعاطي بالمشكلة, فمثلا عند نزول الآية التي بينت إثم الخمر قالوا نأخذ نفعها ونترك إثمها لأنهم لم يستبصروا وقتها بالمشكلة التي تكمن من إثم الخمر الذي فيه ضرر بالدين والعقل والعداوة كالمتعاطي الآن ولم يستبصر بخطورة التعاطي والمشاكل الواقع فيها بسبب التعاطي سواء ابتداء جرئته على شربها وهو يعلم بحرمتها أو ظنه أنها لم تسبب له أي مشاكل وأنه يتعاطى مع نفسه ولا يضر أحد معه, وقد سبب له التعاطي مشاكل في الصلاة أو في العمل أو مع والديه أو إخوانه أو زوجته وأولاده, وعندما يتبين له أن ما يعانيه بسبب تعاطيه استبصر واجتهد في تركها سعياً منه لحل هذه المشاكل
وهناك من لا ينظر إلى ما سببه التعاطي له من مشاكل في دينه وسلوكه وعمله ومشاكله مع أبائه وإخوانه وزجته وأولاده وربما ضعف الاستبصار عنده حتى جمع كل هذه المشاكل, ثم ينظر إلى فعلهم معه ولا ينظر إلى التعاطي الذي سبب له كل هذه المشاكل ولا يسعى في ترك التعاطي لتحل مشاكله, ولكن يسقط أخطائه على الآخرين فينظر إلى أن أبنائه ربطوه بالحبال وضربوه أو أن أبيه يستعين بالآخرين عليه في علاجه وأن هذا فيه فضيحة له, أو أن أبيه أتى بتوصية ليجلسه مدة أكثر في المصحة, وقد يتحول لعنادهم في الإصرار على التعاطي كيداً لهم دون أن يستبصر أنه هو المتضرر ولو أذى معه غيره
وربما من بلغ به هذا الأمر وجد من يبصره بأن كل ما هو فيه من مشاكل هي معاناة من شؤم المعصية والطرد من رحمة الله, فاستدرك ما فاته وتاب إلى الله من هذا التعاطي قبل أن يدخله في مشاكل قضائية تدخله السجن أو يموت على جرعة زيادة في دورة مياه أو غيرها من الأمور التي فيها سوء خاتمة
ومما سبق يتبين أهمية استبصار المتعاطي بخطورة التعاطي عليه, كما بين الله تعالى للمؤمنين أضرار الخمر فتجنبوها لما في ذلك من السلامة لهم
فقد يكون من المؤمنين من تجرؤوا على التعاطي جهلاً منهم بما يسببه التعاطي للمتعاطين, لكن يتولد عند الكثير منهم الرغبة في التعافي من المخدرات فإن الغالب عليهم يريدون صلاح أنفسهم ولكنهم يحتاجون توجيه طيب يعينهم على التخلص من التعاطي, فقد اقتضت حكمة الله أن يرغب عباده في ترك ما نهاهم عنه وأن يرهبهم من الاجتراء عليه فإن في معرفة المؤمن ذلك تتكون عنده الدافعية لعلاج نفسه
فلا بد للمتعاطي ([30]) أن يستبصر بحقيقة الأمر, فإن علاج الإدمان ليس بحبة يتجرعها ولا بحقنة تنظف دمه وبدنه وبعدها انفك من الإدمان, لا . إن علاج الإدمان في تغير المفاهيم للتخلص من السلوك الإدماني وكسب سلوك إيماني من خلال مناهج مبنية على أن دفع لإدمان بالإيمان حتى عند غير المسلمين من خلال ما يملي عليهم دينهم, ونحن منهجنا الإسلامي قد بين النبي صلى الله عليه وسلم عظمته التي فاقت كل مناهج الهدايا وصلاح النفوس عندما ’’ أتى عمر للنبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال أًمُتَهَوِّكُونَ فيها يا بن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية, لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به, والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ‘‘([31]) فستبصر عمر بحقيقة الأمر الذي بهره ’’ فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني ‘‘([32]) فنفع عمر استبصاره هذا عندما آل إليه الأمر بالخلافة, وجيء إليه بكاتب غير مسلم لديه خبرة في الدواوين والحساب وهم يحتاجون إلي هذه الخبرة في ذلك الوقت, فرفضه عمر وبين للمعجبين به أنه لا يُؤْمَن, رغم بعده عن مسائل الهداية كالتي أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكيف إذا كان الأمر علاج لسلوك مسلم لا ينضبط ألا بمنهج الشريعة الإسلامية, التي فاقت نتائج علاجها للإدمان كل المناهج الأخرى, وهذا أمر ثابت البيان والوضوح لكل من يريدوا أن يعالجوا الإدمان بصدق ويهمهم النتائج المشرفة ([33])
ولذلك نأتي بالأمور التي ذكرها الله تعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبعوث لهداية العلمين وسلفه الصالحين, ليتضح للمتعاطين ([34]) كيف يعيش المتعافين في الدنيا بسعادة ونعيم ويقوا أنفسهم من الجحيم وعذاب يوم الدين والفوز بجنة النعيم